والذي كان يحقق استمرار التواصل بين جميع الجهات الافريقية والأندلسية والمغربية، وجود إحساس مشترك بين نازلة هذه الأقطار أكدته كثير من الأحداث مع الزمن، بأن العدوة الأندلسية إنما هي امتداد طبيعي للعدوة المغربية، ولذلك لم يكن التنقل بين العدوتين أمر غير عادي، مما كان يجعل كثيرا من العشائر تتردد بين العدوتين باستمرار خلال السنة انتجاعا للعيش بالتجارة أو لطلب العلم أو في رحلة الحج أو لغير ذلك من الأسباب، يضاف إلى ذلك أن الولاء للقبيلة كان حتى ذلك الحين ما يزال يتحكم في العلاقات الاجتماعية بين السكان، إذ كان يكفي وجود أدنى سبب يصل بين المرء وقبيلة ما من نسب أو ولاء أو صهر ليجد لديها السكن والإيواء، أو الإسعاف والنصرة متى احتاج إليهما، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما كان من نزول عبد الرحمن الداخل "صقر قريش" بالمغرب الأوسط لخؤولة له في نفزة، لأن أمه كانت من سبيهم(١).
ومن ذلك أيضا نزول المولى إدريس بن عبد الله الحسني بقبيلة أوربة بحكم اصهاره إليها(٢)، وكان مثل ذلك يحدث بين رجال العدوتين وقبائلهما بصورة عادية، فلم يكن يعدم المرء في هذه أو تلك لجئا وعشيرة يأوي إليها كلما تردد على هذا البلد أو ذاك، هذا فضلا عن الدور الذي كان للمجاورة بالمساجد والربط حيث كان في إمكان أي طالب غريب أن يأوي إليها عالما أو متعلما أو مرابطا، الأمر الذي كان معه الداخل إلى أي ناحية يجد له نزلا يحل به. وذلك ما كان ييسر للطالب عبور المجاز وارتياد الآفاق العلمية في العدوتين، قبل أن يطمئن به المقام في بلد من البلدان، وربما نسب إلى هذا البلد الذي ألقى فيه عصا التسيار.
(٢) - ينظر الأنيس المطرب بروض القرطاس ٢٠ والبيان المغرب ١/٢١٠ـ.
ويقول أيضا في مقدمته المذكورة: وإني لما رأيت الهمم قد قصرت، ومعالم هذا العلم قد دثرت، وخلت من أئمته الآفاق، وأقوت من موفق يوقف على صحيح الاختلاف والاتفاق، وترك لذلك أكثر القراءات المشهورة، ونسي غالب الروايات الصحيحة المذكورة، حتى كاد الناس لم يثبتوا قراءنا إلا ما في الشاطبية والتيسير، ولم يعلموا قراءات سوى ما فيهما من النزر اليسير..." (١).
ولقد كان لهذا الاعتقاد الخاطئ بسبب شهرة الشاطبية والتيسير، ما يقابله أيضا في الجهات المغربية فهذا إمام جليل القدر في المجال الفقهي يتورط في نفي التواتر عن القراءات السبع بدعوى أنها تنتهي أسانيدها إلى أبي عمرو الداني(٢)، وهذا ينافي عنده تواترها لمجئ أسانيدها في عامة الجهات المغربية غالبا من طرق أبي عمرو، غافلا عن أثر كتابه "التيسير و"اختصاره" "الشاطبية" وما كان لهما في الاستحواذ على الساحة استحواذا كليا حتى غلب على الناس في الغرب الإسلامي أيضا ان القراءة الصحيحة هي ما جاء من طريق أبي عمرو الداني، ومن ثم كان الإقبال على كتابه المذكور، ثم جاءت الشاطبية فزادت في دعم هذا الاتجاه إلى أن كان ما كان من هجر جمهور القراء شيئا فشيئا لباقي الطرق والروايات.
(٢) - هذا القول من عثرات الإمام أبي عبد الله محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي الذي جمع بين الإمامة في الفقه والرسوخ في كثير من العلوم وقرأ القرءان بالقراءات الثمان على أبي عبد الله محمد بن محمد بن حسن بن سلامة الأنصاري وغيره (ترجمته في الديباج ٣٣٧-٣٤٠). وأما رأيه الفائل في عدم تواتر القراءات فقد أدلى به على إثر حادثة غرناطة التي أشرنا إليها في العدد الأول (ص ١٦٠) ويمكن الروع في الخصومة العلمية التي قامت حول موضوع تواتر القراءات السبع لهذا العهد إلى المعيار المعرب للونشريسي ١٢/٦٨ – ٧٢ وما بعدها.