وقد كانت الجهات الشمالية من المغرب مهيأة أكثر من غيرها للاستفادة من هذه الصلات العلمية الدائمة، إلا أنها كانت في غالب الأحيان تفقد "أطرها" العلمية بسبب ذلك، إذ لا يلبث الخارج منها للطلب أن يطيب له المقام في المناخ العلمي الذي يتخرج فيه، فيستقر ببعض الحواضر هنالك في افريقية حينا أو في الجهات الأندلسية آونة أخرى. ولهذا كثيرا ما تطالعنا أسماء طائفة من المنتسبين إلى الحواضر المغربية تضعها كتب التراجم عادة في قسم خاص تحت عنوان "الغرباء"(١).
- طلائع الرحلات العلمية في المغرب:
ونشير ههنا على سبيل المثال لا الحصر إلى أسماء طائفة من النابهين من علماء المنطقة الشمالية من المغرب كانوا في زمانهم يمثلون هذه الطليعة التي استفادت من المناخ العلمي العام الذي كان سائدا في افريقية والأندلس وهم في الوقت ذاته يمثلون نتائج هذا اللقاح الذي كان يتم بين هذه الأقطار لهذا العهد، فمنهم:
ـ الحسن بن سعيد بن إدريس بن رزين الكتامي البربري من أهل المغرب، دخل الأندلس وكان من أصحاب المحدث الأندلسي الكبير الإمام بقي بن مخلد(٢).

(١) - نجد هذا عند ابن الفرضي في تاريخ علماء الأندلس وفي التكملة لابن الأبار وفي الذيل والتكملة للمراكشي.
(٢) - هو إمام المحدثين في الأندلس في زمنه (ت سنة ٢٧٦). تاريخ علماء الأندلس ١/١٦٩ ترجمة ٢١٨١. وروايته عنه في جذوة المقتبس ١٧٨ ترجمة ٣٣١.

ولقد انتهى الأمر في عامة الجهات المغربية إلى أن هيمنت الشاطبية هيمنة مطلقة على الميدان، فلم يعد أحد يعرف القراءات السبع إلا من طرقها، بل أوجب المرتبون منهم لطريقة "جمع القراءات فيما يعرف بصناعة الارداف على الآخذ للسبعة مراعاة الترتيب الذي سلكه الشاطبي في الحرز دون إخلال به(١).
ثم ازداد الأمر تمكنا حين أنشئت للشاطبية أوقاف خاصة في بعض المدارس يعود ريعها لمدرسيها، وقد بدأ ذلك في أثناء المائة العاشرة بمدينة فاس، وفي ذلك يقول أبو العباس المنجور في سياق تعريفه بشيخه علي بن عيسى الراشدي: "كان يحسن علوم القرآن أداء ورسما وضبطا، ويلقي "الكراريس"(٢) وألفية ابن مالك إلقاء حسنا، ونفذ له تدريس الشاطبية الكبرى الذي أنشأ تحبيسه الشيخ الفقيه الفرضي الصالح أبو القاسم الكوش الدرعي(٣) لنظر الشيخ الإمام أبي الحسن بن هارون(٤)، ولم يكن لها وقف قبله، فأقرأها وأعاد، محضرا بالمجلس لكثير من شراحها كالسخاوي وأبي شامة والفاسي والجعبري(٥) حتى تفقه فيها، وكنت أنا وبعض الطلبة قرأناها عليه قبل ذلك الوقف"(٦).
(١) - وهذا ما قرره صاحب القطعة الآتية في قوله:
وصنعة أرداف لأشياخ مغرب تقدم شيخا كان في الحرز أولا
وإن يك في تقديمه طول ردفة فقدم عليه آخرا كان أسفلا.. إلخ
(٢) - المراد بها المنظومات المعتمدة في القراءة كما تقدم كالدرر اللوامع والحصرية ومورد الظمآن وغيرها.
(٣) - سيأتي في أصحاب ابن غازي.
(٤) - هو علي بن هارون المطغري من أصحاب ابن غازي وسيأتي.
(٥) - ستأتي هذه الشروح.
(٦) - فهرس المنجور ٦٧.


الصفحة التالية
Icon