للإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها كان علي أن أتنقل في البحث في أبواب وفصول متناسقة الحلقات ممسك بعضها ببعض مترقيا صعدا مع تطورات القراءة منذ دخولها إلى هذه الجهات ابتداء من القيروان وأفريقية وصقلية، ومرورا بالأندلس في فترات التأسيس، وانتهاء إلى نشوء المدارس الفنية في عهد "الأقطاب"، وانسياحا معها في مختلف امتداداتها في الآفاق في حواضر إفريقية والأندلس ثم في الحواضر المغربية بعد تداعي المجد العلمي في الحواضر الأولى إلى السقوط بسبب الغزو الهمجي حينا وحركة الاسترداد الصليبية في أحيان أخرى.
وكانت لي من خلال ذلك وقفات طويلة عند بعض شخصيات هذه المدرسة أدرس معالم حياتهم العلمية في رحلاتهم ومدارسهم ومؤلفاتهم وتلامذتهم وإشعاعهم، مما أرجو معه أن أكون قد وفيتهم ما يستحقونه أو أكثر.
وقمت في هذا الإطار بالتعريف بكثير من المصنفات التي كان لها أثر ملحوظ في ساحة الإقراء، وأثبت عن كل كتاب عرفت به معلومات مفيدة، وربما عرفت ببعض الكتب المفقودة اعتمادا على بعض النصوص المنقولة عنها في بعض المصادر وذلك لما لها من أهمية وما كان لها من تأثير في موضوعها عند الآخذين بها والمعتمدين عليها.
وناقشت في خلال ذلك الكثير من القضايا، وصححت العديد من الأوهام التي كنت أقف عليها، ونبهت على عدد من قرائنا المغمورين الذين لا تكاد تجد لهم ذكرا في كتب التراجم ممن ضاعت في مجاهل التاريخ شخصياتهم وآثارهم، وبقيت في الميدان العملي اختياراتهم وآراؤهم، وخاصة في ميدان رسم المصاحف وضبطها وبعض قواعد التجويد وأصول الأداء. وأوردت مجموعة كبيرة من قصائد المغاربة وأراجيزهم في قراءة نافع بعد تصحيح متونها ومقابلتها على ما وفقت عليه من نسخها الخطية، كما أثبت بعض هذه الأراجيز التي لا أعلم لها وجودا في أيدي الناس بعد أن طال بحثي عنها ـ كما تقدم ـ حتى وفق الله إلى الحصول عليها في نسخة وحيدة.
في كنف هذا الأمير "سواجات" أو "سقوت" البرغواطي ثم في كنف ابنه العز بن سقوت الملقب بالحاجب نزل الحصري بموضع عال من الحفاوة والرعاية كما عبر عن ذلك ابن بسام في "الذخيرة" في سياق حديثه عن استيلاء المرابطين على مدينة سبتة بعد أن تحدث عن تملك الحموديين لها فقال:
"ثم غلظ أمر سقوت حتى أخاف القريب والنازح، واقتاد الحرون والجامح، وانبثت سراياه في البحر والبر، لإدرك المطلوب والطالب، وتصيد الطافي والراسب... ثم ذكر ما آل إليه أمره من القتل بعد محن جرت عليه على أيدي المرابطين وقال:
"وأفضت الدولة البرغواطية إلى الحاجب العز ابنه: شهاب أفلاكها، وخيرة أملاكها، أهب للأدب ريحا، ونفخت دولته في اهله روحا، أعرض به الشعراء واطالوا، ووجدوا السبيل إلى المقال فقالوا".
وممن خيم في ذراه، ونال الحظ الجسيم من دنياه، الحصري الضرير، فإن له ما أذهل الناظر عن الرقاد، وأغنى المسافر عن الزاد، والحاجب يكحل عينيه بزينة دنياه، ويفتق لهاته بمواهبه ولهاه، وكان سهل الجانب للقصاد، طلق اليد بالمواهب الأفراد"(١).
ونحن وإن كنا لا ندري مقدار ما أصاب الحصري من هذا الحظ الجسيم الذي ذكره ابن بسام نقدر له في زمن هذه الدولة ظفره بالملاذ الآمن والعطاء الجزيل، وربما كان لنا ان نعتبره أحد المحظوظين من العلماء والأدباء الذين استدعوا رسميا ـ كما يقال ـ للكون في الحاشية، ورتب لهم على ذلك عطاء قار(٢).

(١) - الذخيرة القسم ٢ المجلد ٢/٦٥٧ـ٦٦٤.
(٢) - ينظر عن العلماء الذين استقدمهم سقوت أو عاشوا تحت رعايته كتاب "الحركة العلمية في سبتة" لإسماعيل الخطيب ٢٥ـ٢٧.


الصفحة التالية
Icon