وينبغي أن نشر هنا إلى الدور الذي كانت تضطلع به مدينة سبتة في هذا الصدد منذ أول الفتح، إذ كانت دائما بوابة الأندلس التي تستقبل التأثير وتحمله في آن، وقد كانت منذ عهود مبكرة "مطمح ملوك العدوتين وكان للناصر المرواني(١)صاحب الأندلس عناية واهتمام بدخولها في ايالته حتى حصل له ذلك، ومنها ملك المغرب(٢). ويمكننا إدراك مقدار تأثر سبتة بالحملة العلمية الناهضة في الأندلس واحتذائها لها في جميع المجالات، مما ذكره ابن عذاري من أنها "كان يحكم فيها برأي فقهاء الأندلس... وكانوا مع ذلك يؤدون الطاعة لبني إدريس حتى افتتحها عبد الرحمن الناصر، ودخلها قائده فرج بن عفير يوم الجمعة لليلة خلت من شعبان سنة ٣١٩"(٣).
ولم تنفرد سبتة باستقبال هذا التأثير بل شاركتها فيه حواضر أخرى كطنجة التي نبغ فيها غير واحد من الأعلام بل كان منها أقدم قارئ مذكور بلغ مستوى الإمامة في القراءة، ونعني به أبا الربيع سليمان بن أحمد الطنجي المعمر الذي "رحل إلى مصر وبرع في القراءات، وقرأ مع أبي الطيب بن غلبون(٤)... ورجع فأقرأ بالمرية دهرا طويلا، وزاد على المائة سنين، ومات قبل سنة (٤٤٠هـ)(٥).

(١) - هو عبد الرحمن بن محمد الملقب بالناصر، ولي الحكم سنة ٣٠٠هـ، ومات سنة ٣٥٠ وسيأتي الحديث عن المدرسة القرطبية في زمنه.
(٢) - أزهار الرياض للمقري ٢/٢٥٧.
(٣) - البيان المغرب ١/٢٠٣-٢٠٤.
(٤) - هو الإمام عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون الحلبي المتوفى سنة ٣٨٩، وسيأتي ذكره في روافد مدرسة ورش بصر من الشاميين، وفي مشيخة كثير من أئمة القراءات في افريقية والأندلس.
(٥) - غاية النهاية ١/٣١١ ترجمة ١٣٧٠.

ومن أعظم الأدلة على ما كان لها من مقام عند العلماء، وما استقطبته من مظاهر النشاط العلمي في العالم الإسلامي ما نلاحظه من تعاقب الأئمة على شرحها وتبيين مقاصدها والنظم على منوالها ووضع الهوامش والطرر عليها والتأليف في زوائدها على التيسير وما إلى ذلك مما كتب عليها أو على بعض شروحها من مصنفات نحاول في هذه العجالة أن نعطي للقارئ نظرة عنها يتأتى له من خلالها تمثل المكانة المثلى التي تبوأتها في مختلف العصور، وهي المظهر الثالث الذي تبلورت فيه مظاهر العناية بها منذ ظهورها إلى اليوم.
ج- الاهتمام بشرحها وبسط مقاصد الناظم فيها وما اقترن بذلك من مظاهر العناية بها والنظم على منوالها.
أولا : شروح الشاطبية: (١)
سأحاول فيما يلي تعريفا موجزا بشروحها المشهورة وجمع أسماء الشروح التي وردت في المصادر والفهارس، مع محاولة ترتيبها على وفيات أصحابها حسب الإمكان كلما تأتى ذلك، وأكتفي فيما لم أقف عليه بالإحالة على من ذكره، وغرضي بذلك أن نتتبع الأثر العلمي الذي كان للقصيدة وما خلفته في الميدان من آثار ما تزال ملء سمع الدنيا وبصرها، مما تسعى بعض الدراسات الجامعية إلى إبرازه من خلال بعض هذه الشروح وتحقيقها.
وقبل أن أتابع ذكر هذه الشروح أشير إلى أن عمل الأئمة على شرحها قد تسلسل في الزمن منذ ظهورها دون توقف، وقد حاول بعض الباحثين أن يجد تعليلا مقبولا لهذه الظاهرة دون أن يضع في حسبانه ما كان لها وما يزال في القلوب من تعلق مكين، فرجع ذلك بعضهم إلى طبيعة القصيدة في نفسها وزعم أنها "لا تخلو من صعوبة وتعقيد، لذلك كثر شراحها"(٢).
(١) - يجري العمل الآن على تحقيق مجموعة من شروحها كلا أو جزءا فقد علمت أن بعض طلبة الدراسات يعمل حاليا في تحقيق شرح السخاوي وبعضهم في تحقيق شرح الجعبري وبعضهم في قسم الأصول من شرح الفاسي.
(٢) - هذا الرأي هو رأي الأنسيكلوبيدية الإسلامية نقله الأمير شكيب أرسلان في الحلل السندسية ٣/٢٨٠.


الصفحة التالية
Icon