ذلك جانب من هذا النشاط العلمي الذي بلغتنا أصداؤه من خلال هذا العصر، والذي يهمنا من خلال عرض النماذج التي ذكرناها عنه التأكيد على وجدود الصلات العلمية الدائمة التي كانت لا تنقطع، ولا تني آثارها تنعكس على الحواضر المغربية، ولا شك أن هذه الحواضر كانت تحتضن كثيرا من المبادرات الفردية في أكثر من مجال بما في ذلك إسهامها في القراءة وشد الرحال في طلبها إلى افريقية ومصر والأندلس وغيرها وإن كانت المصادر عندنا فقيرة في هذا الشان إذ لم يكن اهتمامها بتتبع هذه المبادرات وتسجيل أخبارها.
وبناء على ما تقدم يمكن القول باطمئنان: ان المناطق المغربية قد تعرفت على قراءة نافع على أيدي هؤلاء الأعلام ومن خلال حركات الهجرة التي رأينا، والصلات الدائمة بينها وبين افريقية والأندلس، بالإضافة إلى المبادرات التي أشرنا إليها مما كان يتحقق على أيدي أصحاب الرحلات الحجازية التي كان العائد منها غالبا يجد أكثر من داع يدعوه إلى التوقف في أثناء الطريق بمصر أو بالقيروان حيث كانت قراءة نافع قد أخذت طريقها لتصبح قراءة رسمية جامعة قبل منتصف المائة الرابعة، وربما عرج الطالب منهم على مواطن أخرى لمزيد من الإتقان فدخل صقلية أو قرطبة أو غيرها من حواضر الأندلس، وهي يومئذ في أوج نشاطها الثقافي والحضاري.(١)

(١) - سيأتي لنا الحديث عن سلسلة طويلة من الرحلات العلمية من المناطق الافريقية والأندلسية والمغربية وأثرها في دخول مختلف القراءات والروايات والمصنفات في القراءات وآثار المدارس الفنية من مختلف الجهات المشرقية من حجازية أو شامية أو عراقية أو مصرية، وذلك في طائفة من الفصول الآتية في البحث بعون الله.

وعلل ذلك بعضهم بالضعف العام الذي أصاب عامة العلوم، إذ "مال القراء في العصور المتأخرة كغيرهم من أصحاب العلوم الأخرى حين طغى المنهج التعليمي على المنهج العلمي ـ إلى نظم مسائل هذا العلم ـ القراءات ـ وقواعده في منظومات تلخيصية مركزة قصد حفظها واستظهارها صارت بعد ذلك موضوعا لشروح وحواش متعددة، قال: " ومن أشهر هذه المنظومات التي نالت أوفر حظ من الشرح والتداول منظومة ابن فيره الشاطبي الأندلسي المتوفى سنة ٥٩٠ في القراءات السبع وهي المسماة بحرز الأماني"(١).
ومهما يكن السبب فإننا لا ينبغي أن نغفل من حسابنا الصدى الطيب والأثر العميق الذي خلفه ناظم القصيدة في أصحابه الذين قاموا أول الأمر بروايتها والتنويه بها وبصاحبها بقطع النظر عن قيمتها العلمية وما اختص به فيها من براعة وحذق أعجزت البلغاء وفرسان هذا العلم.
وسأحاول فيما يلي متابعة هذا التسلسل في ظهور المؤلفات حولها عصرا بعد عصر، وأنبه على أني ربما قدمت بعض الشروح على ما قد يكون كتب قبلها استنادا إلى تاريخ وفاة مؤلفها سواء كان محددا أو مقدرا، ولذلك لم أبدأ بشرح السخاوي الذي قيل عنه " أول شرحها" كما سيأتي، وهذه قائمة بشروحها وأسماء مؤلفيها ونبذ يسيرة عنها:
١- شرح الشاطبية لعبد الرحمن بن إسماعيل أبي القاسم التونسي المعروف بابن الحداد (ت في حدود ٦٢٥)، وقد تقدم التعريف به في أصحاب الشاطبي، قال ابن الجزري: "وعمل شرحا للشاطبية ويحتمل أن يكون أول من شرحها"(٢).
(١) - عبر عن هذا الرأي كما نقلناه الأستاذ عبد العلي الودغيري في بحث له بعنوان " لمحة عن المصادر العربية القديمة لدراسة الصوت " نشر في مجلة المناهل المغربية العدد ٢٨ السنة ١٠ ربيع الأول ١٤٠٤ – دجنبر ١٩٨١ ص ٩٢-٩٣.
(٢) - غاية النهاية ١/٣٦٦ ترجمة ١٥٥٩ وقد ترجمنا له في القراء الذين أخذوا وأخذ عنهم بسبتة ومراكش.


الصفحة التالية
Icon