"فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحل الحلال، وحرم الحرام، إذ رسول الله ـ ﷺ ـ بين أظهرهم، يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويبين لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته، ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته، ممن ولي الأمر بعده، فما نزل بهم مما عملوه أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك... فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرا معمولا به، لم أر لأحد خلافه للأثر الذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها"(١).
وكما ساد هذا التقدير لمذاهب أهل المدينة باعتبارها استمرارا عمليا وميراثا نبويا، ساد أيضا مثل ذلك في النظر إلى رجالها وقيمة الروايات المنقولة عنهم عن الثقات، وقد ترامى أثر ذلك إلى الآخذين عنهم من أهل افريقية من الرواد ثم استمر أثره في تلامذتهم، مما تميزت به "المدرسة المدنية" عن سواها في ملامحها وسماتها وخصائصها العامة، وهذا شيخ المذهب بافريقية الإمام سحنون يقول:
"المدني إذا لم يكن هكذا ـ يريد في الدين، وشد على يديه ـ لم يسو شيئا"(٢).
وقد قال مالك قبله للخليفة المهدي العباسي لما دخل المدينة: "ما على وجه الأرض خير من أهل المدينة ولا خير من المدينة"(٣). وقال مالك أيضا لأبي جعفر المنصور حين أراده على تأليف كتاب في الفقه يحمل الناس عليه: "فإني رأيت أصل هذا العلم رواية أهل المدينة وعلمهم"(٤).
(٢) - المصدر نفسه ١/٢١.
(٣) - ترتيب المدارك ٢/١٠٢.
(٤) - الانتقاء لابن عبد البر ٤١.
ويبتدئ السخاوي كتابه "فتح الوصيد" بقوله: "الحمد لله الذي جعل كتابه العزيز نورا يهتدى به إذا أظلمت الأمور، وسورا يتحصن فيه عند نزول المحذور، وضياء تستمده البصائر فلا تحيد عن الحق ولا تجور، وشفاء لما في الصدور، وشفيعا إذا بعث من في القبور، أحمده على ما خصنا به من حمله، وأسأله أن يجعلنا من أهله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة سليمة من الأهواء، بريئة ممن ألحد في الأسماء..
وبعد فإني ذاكر في هذا الكتاب ـ بحول الله وقوته ـ شرح قصيدة الشيخ الإمام شرف الحفاظ والقراء، علم الزهاد والكبراء، أبي القاسم بن فيره بن أبي القاسم الرعيني الشاطبي رحمه الله الملقبة بـ"حرز الأماني ووجه التهاني" لما جمعته من الفوائد، وحوته من حسن المقاصد، وأسميه "فتح الوصيد، في شرح القصيد".
ثم ذكر ما نقلنا عنه في رأيه في القصيدة فقال: "وما علمت كتابا في هذا الفن منها أنفع...
ثم قال: "ذكر نبذ من فضائل أبي القاسم ومولده ووفاته وشيوخه رضي الله عنهم بمنه" وساق ما ذكرناه في ترجمة شيخه، ثم ذكر نبذا من نظمه ثم قال: والآن أبدأ بشرح حرز الأماني مستعينا بالله وهو خير معين، قال رحمه الله وقرأتها عليه غير مرة عارضا ومقيدا.
بدأت بلسم الله في النظم أولا.. وأخذ في الشرح بيتا بيتا إلى آخره.
وقد أطلت في التعريف بهذا الشرح لأنه عمدة عامة الشروح التي ظهرت بعده، ولأنه كان واسع الاستعمال في مدارس الإقراء كما تقدمت الإشارة إليه عند مشيخة الإقراء في المائة العاشرة بفاس.
٥- شرح الشاطبية أو "الدرة الفريدة في شرح القصيدة" لمنتجب الدين حسين بن أبي العز الهمداني (ت ٦٤٣)
ذكره الحافظ أبو شامة في ذيله على "الروضتين" وقال: "كان مقرئا مجودا، وانتفع بشيخنا السخاوي في معرفة قصيد الشاطبي، ثم تعاطى شرح القصيد، فخاض بحرا عجز عن سباحته، وجحد حق تعليم شيخنا له وإفادته، فالله يعفو عنا وعنه"(١).