ولكم يبدو من الطريف أن أولئك الحكام قد حاولوا الأخذ بمذاهب المدنيين في كل شيء، حتى عملوا على إدخال مذاهبهم في التوقيع والغناء، وسموا الجناح الذي تقيم فيه الجواري المستوردات من هناك بـ"دار المدنيات"(١)، فغير بدع أن يتمسك قوم هذا شأنهم في الشغف بكل ما هو مدني بمذهب مالك وقراءة نافع وأن يرتبط في أذهانهم تقديرهم للمدينة وخصوصية أهلها بتقدير فقه إمامها وقراءة قارئها، لاسيما إذا كان هذا التقدير مستندا إلى شعور إسلامي مشترك بين الأمة، وإلى ما هو متعارف عند العلماء، حتى قالوا عن الحديث انه "إذا جاوز الحديث الحرة(٢)ضعف نخاعه"(٣).
وهذا الإمام أبو بكر بن مجاهد أول من جمع قراءات السبعة في كتابه، وضع نافعا في طليعتهم مع تأخر زمنه ووفاته عنهم جميعا ما عدا الكسائي، ولمح إلى سر تقديمه بقوله عن المدينة:
"مهاجر رسول الله ـ ﷺ ـ ومعدن الأكابر من صحابته، وبها حفظ عنه الآخر من أمره، فكان الإمام الذي قام بالقراءة بمدينة رسول الله ـ ﷺ ـ بعد التابعين أبو عبد الرحمن نافع ابن أبي نعيم"(٤).

(١) - استكثر أمراء بني أمية بقرطبة من الجواري والقيان وأخذوا بأسباب البذخ والرفاه فتأنقوا في اختيارهن من المدنيات اللاتي تلقين أصول العزف والغناء بالمدينة، وأفرد لهن عبد الرحمن الأوسط (٢٠٦-٢٣٨) دارا خاصة بهن سميت "دار المدنيات" يمكن الرجوع في ذلك إلى نفح الطيب ٤/١٣٦.
(٢) - هي المعروفة بحرة واقم بظاهر المدينة حيث دارت المعركة المعروفة بوقعة الحرة على عهد يزيد.
(٣) - التمهيد لابن عبد البر ١/٨٠، وهناك رواية بلفظ "انقطع نخاعه" تنظر في نشر البنوذ للعلوي ٢/٩٠.
(٤) - كتاب السبعة لابن مجاهد ٥٣.

تقدم ذكره في المتخرجين على مشيخة الإقراء بفاس في المائة السابعة، قدم مصر بعد أن درس بفاس على من بها، وقرأ على أبي القاسم عبد الرحمن بن سعيد الشافعي وأبي موسى عيسى بن يوسف المقدسي عن قراءتهما على الشاطبي، وعرض عليهما حرز الأماني، وعرض الرائية على الجمال علي بن أبي بكر الشاطبي بسماعه من الناظم، وقرأ على غير من ذكر، وكان واسع العلم كثير المحفوظ بصيرا بالقراءات وعللها مشهورها وشاذها خبيرا باللغة، انتهت إليه رئاسة الإقراء بمدينة حلب، وأخذ عنه خلق كثير سمى منهم الحافظان الذهبي وابن الجزري وقالا:
"وشرحه للشاطبية في غاية الحسن"(١)، وأسنده ابن الجزري ضمن شروحها الستة التي أسندها في النشر(٢).
وعنوانه عند عامة من ذكره وفي نسخه المخطوطة كما أثبتناه، إلا أني وجدت الجعبري يذكره في آخر الكنز معرفا به فيقول "مؤلف الجلية في شرح الشاطبية"، كما رأيت صاحب كشف الظنون يقول: "له شرح سماه الفريدة البارزية في حل القصيدة الشاطبية" أوله: "الحمد لله ذي الصفات العلية. "فاشتبه عليه بشرح هبة الله البارزي الآتي، وتبعه على ذلك البغدادي في هدية العارفين(٣).
والصحيح في اسمه ما أثبتناه وكما ذكره بنفسه في مقدمة شرحه، وما يزال هذا الشرح على أهميته لم يأخذ طريقه إلى المطبعة مع وفرة نسخه الخطية في الخزائن العامة والخاصة شرقا وغربا(٤).
وقد وقفت على عدد منها، وأوله بعد الديباجة قوله:
(١) - معرفة القراء ٢/٥٣٤ وغاية النهاية ٢/١٢٣.
(٢) - النشر ١/٦٣ـ٦٤.
(٣) - كشف الظنون ١/٦٤٨ـ٦٤٩ وهدية العارفين ٢/١٢٦.
(٤) - منها بالخزانة العامة بالرباط نسخ تحت الأرقام ٥٣٠ ق ــ٢٢٧ق ـ ٢٢٨ق وبالخزانة الحسنية بأرقام ٢١٣٠ـ١٢٤٣ـ٦٩٧٣ (فهرس الخزانة الحسنية ٦/١٤٤ـ١٤٥).


الصفحة التالية
Icon