قال: "إذ كانوا يلتزمون تقديم قالون عليه، لأنه مدني، ولأن كبار الأئمة كالداني والشاطبي قدموه، ولذا جرى عملنا بتونس بتقديمه على ورش في الإفراد والجمع"(١).
فإيثار مذاهب أهل المدينة كان أولا وراء اختيار قراءة نافع، ثم زاد عند أهل تونس فاختاروا من قراءة نافع الرواية المدنية، وهي رواية قالون، والتزموا بهذا التقديم حتى في إيراد مسائل الخلاف، وجاء أهل والمغرب فاختاروا رواية ورش المصري، ولكنهم اختاروا منها الطريق المدنية، وهي طريق يوسف الأزرق المدني، فكان الانتساب إلى المدينة داخلا في الحسبان، وحاضرا في الأذهان، وسرت من هذا آثاره إلى القراءة والرسم والضبط والعدد، فكانت "المدنية" صبغة عامة وسمة أساسية فيها، على غرار ما سيأتي لنا عند أبي عمرو الداني من تنبيهات يسوقها بعبارات مختلفة تؤكد على استمساك المغاربة بـ"المدنية" استمساكا تاما، كأن يقول: "ولم يخالفوهم في شيء جرى استعمالهم عليه"(٢)، أو يقول: "وعلى استعماله واتباع أهل المدينة فيه عامة أهل بلدنا"(٣)، أو يقول: "غير أن اتباع أهل المدينة أولى، والعمل بقولهم ألزم"(٤). وسوف نرى هذا المنحى واضحا في "المدرسة الاتباعية" في موضعه من البحث بعون الله.
وقد انتهى بعض الباحثين إلى شبيه بما انتهينا إليه هنا في دراسته لآثار المدرسة المدنية في مصر في التفسير والفقه والقراءة، فذكر أنها ظاهرة عامة، وفسرها "بسيادة المدينة روحيا وثقافيا حينذاك"(٥).
ومعنى هذا أن عامل "إيثار المدينة" قد أعطى النتائج ذاتها في مصر كما أعطاها في افريقية والمغرب والأندلس، وبهذا صح لنا اعتباره في طليعة العوامل التي مهدت لقراءة نافع ومكنت لها في هذه الديار.
(٢) - المحكم في نقط المصاحف للداني ٨.
(٣) - المحكم ٥٠.
(٤) - نفس المصدر والصفحة.
(٥) - القرآن وعلومه في مصر للدكتور عبد الله خورشيد البري ٣٥٧.
ونسخه الخطية الكثيرة الموزعة على مكتبات العالم الإسلامي خير دليل على مقدار رواج الكتاب واهتمام أهل هذا الشأن به(١).
وقد كان من الشروح المعتمدة عند المغاربة في التدريس ـ كما تقدم ـ كما دخل الأندلس أيضا وكان من أهم مصادر الإمام المنتوري في شرح الدرر(٢).
٧- مختصره: وقد اختصره بعض المشارقة وهو الحسين بن أحمد بن علي بن حجاج في كتاب سماه "منتقى اللآلي للفاسي"، وما تزال بعض نسخ هذا المختصر باقية بمكتبة الأوقاف ببغداد(٣).
٨- شرح الشاطبية أو "كنز المعاني" لمحمد بن أحمد بن محمد الموصلي المعروف بـ"شعلة" (ت ٦٥٦)
وقد توافق في اسم هذا الشرح مع الإمام الجعبري، إلا انه متقدم في الزمن والتأليف عليه، وقد اعتذر اعني الجعبري في آخر شرحه بأنه لم يكن قد سمع به"(٤).
وهو من الشروح المهمة الواسعة الانتشار أيضا كما تدل عليه نسخه الخطية الموزعة على عامة البلدان الإسلامية(٥)، وقد طبع طبعة قديمة بالقاهرة بدار التأليف بدون تاريخ(٦) إلا أنها في حكم المفقودة.
(٢) - يمكن الرجوع إلى بعض ما نقل عنه في باب الراءات من شرحه.
(٣) - رقمها ٢٤٥٣ وهي مصورة عن أصل مخطوط.
(٤) - ذكره في آخر الكنز وذكره ابن الجزري في غاية النهاية ٢/٨١ ترجمة ٢٧٨٠.
(٥) - منها م خ ع الرباط برقم ١٠١٢ـ وبالخزانة الحسنية بأرقام: ٣٧٨ـ٤٢٧ـ٨٤٤٨ـ٧٩٦٣ـ٥٠٣٢ـ٥٥٠٠ الخ (فهرسة خ ح ٦/١٣٥ـ١٣٧).
(٦) - ينظر في ذلك معجم الدراسات القرآنية المطبوعة والمخطوطة لابتسام الصفار ـ المورد العراقية المجلد ١٠ عدد ٣ـ٤.