العامل الثالث: العلاقة الوثقى بين نافع ومالك أو بين القراءة والمذهب المدنيين
وكما كان للعاملين السابقين ـ الرحلة إلى الحجاز، وإيثار مذاهب أهل المدينة ـ أثرهما في اعتماد قراءة نافع المدني، فإن العلاقة الوثقى التي تربط بين إمامي المدينة لم تكن أيضا أقل شأنا واعتبارا في ذلك، فإلى جانب المعاصرة بينهما والزمالة في عهد الطلب والدرس ووحدة الشيوخ ـ كما سيأتي في الباب التالي ـ من ذكر جلوس نافع بن أبي نعيم إلى نافع مولى عبد الله بن عمر، ومالك من الصبيان -(١)وأخذهما معا عن ربيعة والزهري وابن هرمز وأبي الزناد وأبي جعفر المدني وغيرهم من مشيخة المدينة، فإن الوشيجه الأمتن التي زادت في توطيد العلاقة وإحكام الوصيلة بين الإمامين المدنيين، هي تدبجهما أي: قراءة كل منهما على الآخر، حيث قرأ مالك القرآن على نافع وعرض عليه(٢)، وقرأ نافع على مالك الموطأ"(٣).
هذا بالإضافة إلى تعاونهما في تخريج الأجيال العديدة من المدنيين والوافدين على المسجد النبوي من مختلف آفاق البلدان الإسلامية، فقد كانت لكل منهما حلقته، بل كانت حلقة نافع إلى جوار حلقة مالك، وسيأتي لنا كيف زجر نافع أحد تلامذته حين رفع صوته بالقراءة في حلقته وقال له: "أو ما ترى مالكا"(٤).
(٢) - ترتيب المدارك ١/٨١ وكذا ٢/١٧٢ وإبراز المعاني لأبي شامة ٥ ووفيات الأعيان ٤/١٣٥ ونشر البنود ١/٣٤٤ وينظر البحث الذي شارك به أستاذنا الدكتور الراجي التهامي في "ندوة الإمام مالك" ١/٢٨٠.
(٣) - دليل الحيران في شرح مورد الظمآن للمارغني ٢٥.
(٤) - ترتيب المدارك ٢/٣٦.
يقول في أول شرحه: "أحمد الله الذي أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف، وخص أهله الذين هم خاصته بخوالص المنح وخواص الألطاف، أظهر فيه لنبيه النبيه أظهر شواهد الإعجاز، حتى تبين من فيه لما بين من معانيه ما حرم في الشرع وما جاز.. ثم قال بعد تمام الثناء على الله بما هو أهله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر فضل القرآن على سائر الكلام، ومزية العلم باختلاف القراءات فيه:
"ومما صنف في هذه الصناعة الشريفة... التأليف المنيف الموسوم بحرز الأماني، ووجه التهاني، للشيخ المتبحر النحرير، الولي أبي القاسم الضرير... ثم أثنى على نظمه المذكور وقال:
"لكنه لغزارة رموزه المرموزة مع الوجازة، قد يبقى من معاضله، وانغلاق مسائله، في القلوب حزازة، وشروحه وان كثرت وقعت في طرفي الإيجاز المخل، والإطناب الممل، يتقاعد بعض الخواطر عن بعضها بالإفراط في البسط، وينتهي الآخر عن الآخر للتفريط في الربط... إلى أن انتهى من حديثه عن دواعي التأليف بذكر منهجه فقال: "مؤسسا مبنى تأليفي على ثلاث قواعد: مبادئ ولواحق ومقاصد فالأولى في المعنى اللغوي وما ينتسب إليه، والثانية في الاعراب.. والثالثة في المقصود من الكلام... وسميته "كنز المعاني في شرح حرز الأماني، والمرجو من الله والمسؤول، أن يلحظ من يلاحظه بعين القبول، انه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، فأقول وبالله التوفيق، وهو لتحقيق الآمال حقيق: قال الشيخ أبو القاسم الشاطبي رحمة الله عليه، وأجلسه في مقعد صدق لديه: بدأت بلسم الله في المنظم أولا....(١).
٩- شرح الشاطبية أو المفيد في شرح القصيد. لعلم الدين القاسم بن أحمد بن الموفق اللورقي الأندلسي