قال عياض: "ويجوز على هذا أن يقال: هو ابن شهاب في وقته وفنه، والعمري(١)في وقته وفنه، ومالك في وقته وفنه.."(٢).
فدل هذا إذن على إمكان دخول نافع في مقتضى التقريظ المذكور، فيكون دالا بعمومه عليه. وهكذا ارتبط عند الناس انطلاقا من هذا وغيره" إجلال مالك بإجلال نافع، وسرى معه التقدير المشترك للإمامين في الأخذ بمذهبيهما في القراءة والفقه، واعتبروا قول مالك عن قراءته هي سنة وأخذه عنه، فقراءته هي قراءة إمام المذهب، فكل مخالفة عنها مخالفة لهذا الإمام في الجملة، ولهذا نجدهم كثيرا ما يكتفون في التنويه بقدره بذكر قراءة مالك عليه، كقول ابن وهب: "فكيف برجل قرأ عليه مالك"(٣)وكقول أبي وكيل ميمون الفخار في تحفة المنافع:
إذ هي سنة، وأخذ مالكـ بحرف نافع، فهل من سالك(٤).
ثم انتقلوا بالاقتران بين المذهب والقراءة إلى مستوى أرفع، حتى في مجال اختيار الروايات، رغبة منهم في تحقيق مزيد من التلاحم بينهما، ففي الأندلس مثلا كان الغازي بن قيس في شخصيته ملتقى للقراءة والمذهب، فقد قدمنا أنه الرائد الأول في إدخال قراءة نافع، في حين أنه أيضا أول من أدخل موطأ مالك إلى الأندلس(٥)، فاجتمع الناس على رويته لهذا الازدواج في شخصيته العلمية.
(٢) - ترتيب المدارك ١/٧٢.
(٣) - نقله مسعود جموع في الروض الجامع في شرح الدرر اللوامع (محطوط سيأتي ذكره بين شروح الدرر اللوامع).
(٤) - تحفة المنافع في أصل مقرأ الإمام نافع، أرجوزة طويلة سيأتي التعريف بها وبناظمها في المدرسة المغربية.
(٥) - غاية النهاية ٢/٢ ترجمة ٢٥٣٤. ونحوه في ترتيب المدارك ٣/١١٤ ـ وتاريخ علماء الأندلس ٢/٥٧٨.
إلا أن في النفس شيئا من نسبة هذا المختصر إليه، لأنه في كتابه الآخر "المرشد الوجيز" إنما يذكر المختصر والكبير، فلعل المفهرس أو الناسخ سمى التأليف المتداول بـ"المختصر" وظنه اختصارا جديدا، وذلك لأن المؤلف فيما يبدو قد احتفظ بعنوان: إبراز المعاني" للكبير والصغير المختصر منه معا، ولهذا نجده يقول في الباب الرابع من المرشد الوجيز عند ذكر"معنى القراءات المشهورة". وقد قدمت في أول: إبراز المعاني المختصر"قولا في ذلك، وطولت فيه النفس في "الكتاب الكبير" في شرح"جزى الله بالخيرات..: الخ(١).
وقال مرة أخرى: "على ما نقلناه في الكتاب الكبيرمن ابراز المعاني"(٢).
وأول الشرح المطبوع المتداول قوله:" الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه، وأفاض لدينا منه، وأنزل إلينا كتابه الذي فصل آياته فأحكمه وأتقنه، وجعلنا من حملته وخدام شرعه الذي علمنا فروضه وسننه، وخصنا بإرسال أكرم الخلق عليه الذي طهر قلبه وأظهر لسنه...
"أما بعد فإن أولى ما افنى فيه المكلف عمره، وعلق به خاطره وأعمل فيه فكره، تحصيل العلوم النافعة الشرعية، واستعمالها في الأعمال المرضية، وأهم ذلك علم كتاب الله تعالى الذي تولى سبحانه حفظه بفضله، وأعجز الخلائق أن يأتوا بمثله، وجعل ذلك برهانا لتصديق رسوله من أنزل عليه... ولا يحصل ذلك إلا بعد الإحاطة بما صح من قراءاته، وثبت من رواياته، ليعلم بأي لفظ يقرأ؟ وعلى أي وجه يروى".
والقرآن كلام الله منقول نقل التواتر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي أنزل إليه، لم يزل في كل حين وجيل ينقله خلق لا يحصى، ويبحث في ألفاظه ومعانيه ويستقصى، وإنما يعد أهل العلم منهم من كثرت عنايته به، واشتهر عند الناس بسببه".
(٢) - المصدر نفسه ١٦١.