ثم لما مات الغازي بن قيس كانت رواية ورش قد وصلت إلى الأندلس مع بعض الرواة عنه ـ كما سيأتي ـ ثم وصلت روايات أصحابه تباعا مع أصحاب الرحلات العلمية، فكان من بينها رواية عبد الصمد عن ورش، وهو ولد عبد الرحمن بن القاسم العتقي صاحب مالك، فمال الأندلسيون إلى روايته تحقيقا لهذا التلاحم بين القراءة والمذهب، وبه علل الإمام الذهبي لانتشار طريقه هناك فقال: "ولمكان أبي الأزهر(١)اعتمد الأندلسيون قراءة ورش"(٢).
وإنما يعني من جهة كونه من فقهاء المالكيين، ومن جهة ثانية مكانه من البنوة لمتبوعهم في الجانب المذهبي، إذ كانت الفتيا عليه كما قال أبو الوليد الباجي(٣): "كان في قرطبة لا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجد"(٤)، وذكر المقري من رسالة إسماعيل بن محمد الشقندي في "فضل الأندلس" أنهم " كانوا لا يولون حاكما إلا بشرط أن لا يعدل في الحكم عن مذهب ابن القاسم"(٥).
فهذه الحظوة التي نالها ابن القاسم في الجانب الفقهي والمذهبي، قد استتبعت تلقائيا في مجال القراءة اختيار رواية ابنه أبي الأزهر عبد الصمد، رعاية للألفة والالتحام بين القراءة والمذهب، لاسيما ان اعتبرنا رواية ابن القاسم نفسه عن نافع ـ كما سيأتي ـ، فقد تمثل في هذا البيت إذن تمام الالتحام بين الأمرين والرواية عن الإمامين.
(٢) - معرفة للقراء الكبار للذهبي ١/١٥٠-١٥١. طبقة ٦. وتبعه السيوطي في حسن المحاضرة ١/٢٠٧.
(٣) - هو سليمان بن خلف بن سعد الباجي الفقيه المالكي المشهور من أهل قرطبة، رحل إلى بغداد والموصل ورجع إلى الأندلس فولي القضاء، وألف كتبا عالية القدر في الفقه وأصوله (ت ٤٧٤) ترجمته في الصلة لابن بشكوال ١/١٩٧-١٩٩ ترجمة ٤٥٣ وتاريخ قضاة الأندلس للنباهي ٩٥.
(٤) - نقله الونشريسي في المعيار المعرب ١٢/٢٤.
(٥) - نفح الطيب للمقري ٤/٢٠٢.
"وذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام- رحمه الله تعالى- في أول كتابه في القراءات(١) تسمية من نقل عنهم شيء من وجوه القراءات من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من كبار أئمة المسلمين، فذكر الخلفاء... وساق أسماء القراء المشهورين في الأمصار ثم قال:"ثم إن القراء بعد هؤلاء كثروا، وتفرقوا في البلاد وانتشروا، وخلفهم أمم بعد أمم عرفت طبقاتهم، واختلفت صفاتهم، فمنهم المحكم للتلاوة، المعروف بالرواية والدراية، ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف، وكثر بسبب ذلك الاختلاف، وقل الضبط، واتسع الخرق، والتبس الباطل بالحق، فميز جهابذة العلماء ذلك بتصانيفهم وحرروه وضبطوه في تآليفهم...
ثم ذكر تأليف أبي بكر بن مجاهد لكتابه في السبعة، وأوضح أن القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول فعرض طائفة من الآثار الواردة في ذلك، ثم تطرق لذكر شروط القراءة المقبولة وميزها عن الشاذة، ثم ذكر تطور التأليف فيها وظهور القراءات السبع واشتهار الأخذ بها خاصة، ثم عقد فصلا لذكر القراء السبعة وساق تراجمهم باختصار، ثم قال متحدثا عن القصيدة التي وضع شرحه عليها:"ثم إن الله تعالى سهل هذا العلم على طالبيه بما نظمه الشيخ الإمام العالم الزاهد أبو بالقاسم الشاطبي ـ رحمه الله ـ من قصيدته المشهورة المنعوتة ب"حرز الأماني"(٢).
١٣- شرح الشاطبية لأبي الحسن علي بن يعقوب بن شجاع المعروف بالعماد الموصلي شيخ مشايخ الاقراء بدمشق (ت٦٨٢).
(٢) - ابراز المعاني – الطيعة المحققة ١- ٣.