ومن أمثلة التلاحم بين القراءة والمذهب الفقهي في وعي القراء ما نجده عند بعض الأئمة من احتياط في تقرير مذهب نافع في البسملة في فاتحة الكتاب، وفي الفصل بين السور من بعض الروايات عنه، وهو أمر تتحكم فيه الرواية ولا مجال فيه للاجتهاد الشخصي، فحافظوا على ذلك في الأداء، ونبهوا على أن ذلك لا يشمل حال الصلاة المفروضة، لأن مذهب أهل المدينة ترك التسمية فيها، فقرر أبو عمرو في "الأرجوزة المنبهة" مذهب القراء في ذلك بإثبات البسملة، ثم قال محتاطا للحكم الفقهي موافقة لمذهب مالك.
أقول في الأداء أو في العرض ولا أقول في صلاة الفرض(١)
ويقول أبو الحسن الحصري في قصيدته في قراءة نافع:
وإن كنت في غير الفريضة قارئا فبسمل لقالون لدى السور الزهر(٢)
ومعلوم أن كلا منهما إنما أراد المحافظة على الانسجام المألوف بين القراءة والمذهب، حتى لا يكون إطلاق الحكم الأدائي سبيلا إلى المس بحرمة المذهب الفقهي أو العكس، مما يدل على مدى حرص القراء المغاربة على استمرار التجاوب بين القراءة والمذهب المدنيين، انبثاقا من العلاقة الوثقى التي ربطت في الأذهان بين هذه وذاك، مما كان له أثره العميق في التمكين لهما معا دفعة واحدة، فنالت قراءة نافع رضا الفقهاء والعامة "ولذلك عظم ميل المغاربة المالكيين إليها، وعولوا في التلاوة عليها، وأكثر علمائهم من التصانيف، وألفوا في قواعدها وأحكامها أي تأليف"(٣).
العامل الرابع: النقل المزدوج للقراءة والمذهب معا على أيدي الرواد الأولين.

(١) - الأرجوزة المنبهة للإمام الداني تحقيق الدكتور الحسن وكاك ٢/٣٧٥-٣٧٦ من النسخة المرقونة بالآلة ومنها نسخ محفوظة بخزانة دار الحديث الحسنية بالرباط. وقبل هذا قوله:
والفصل بالتسمية المختار إذ كثرت في ذلك الآثار.
(٢) - ذكره في باب البسملة من قصيدته، وستأتي في ترجمته بنصها.
(٣) - النجوم الطوالع ٣.

١٨- شرح الشاطبية أو"فرائد المعاني في شرح حرز الأماني ووجه التهاني لأبي عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي المعروف بابن آجروم النحوي المشهور(ت ٧٢٣) من أصحاب أبي عبد الله بن القصاب ـ كما سيأتي في ترجمته ـ وهو من أنفس شروح الشاطبية وأحفلها، ويقع في مجلدين متوسطين. وقد وفقت في أول إعدادي لهذا البحث على نسخة قيمة بالخزانة العامة بالرباط مسجلة بها تحت رقم ق: ١٤٦ وهي في جزءين جمعا في مجلد واحد كبير، وتقع في ٣٢٧ صفحة مرقمة من الجهتين بخط مغربي متوسط ومسطرتها ٣٥ بمعدل ١٠ كلمات في السطر.
ومما ضاعف من قيمتها وأهميتها ما جاء علىأول ورقة منها في الجزء الأول من الإشارة إلى أن المخطوطة بخط يده المباركة، إلا ماجدد بمحو أو سقط من بعض الورقات فإنه بخط يد ولده عبد الله(١) بن محمد المدعو منديل رحمهما الله تعالى".
ثم رأيت جامع (الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط) ذكر أن من هذا الشرح نسخة بجامعةالقرويين بفاس برقم (ق ١٤٦) في جزئين بخط المؤلف نفسه، وأشار إلى قائمة النوادر (ص٧)(٢) فلعل هذه الإشارة إلى النسخة نفسها التي وقفت عليها بالرباط لأن المعلومات عنها متحدة.
وتوجد بالخزانة العامة أيضا نسخة من شرحه في مجلدين يقف ثانيهما عند فرش الحروف لبتر فيه(٣).
وتبتدئ النسخة التي هي بخط المؤلف بقوله: "يقول محمد بن محمد بن داود الصنهاجي عفا الله عنه: "الحمد لله المبتدئ بالإحسان، المتفضل بنعمتي الإسلام والإيمان، المفضل نوع الإنسان على سائر الحيوان، مطلق الألسنة بذكره، ومرشدها مهيع حمده وشكره، نور البصائر بنور الأفهام، وكحل باثمد الحكمة آماق الأفهام...
(١) - كذا والصحيح أبي عبد الله محمد كاسم والده كما سيأتي في ترجمته
(٢) - الفهرس الشامل للتراث ١/٢٤٣
(٣) - رقمها بالخزانة المذكورة ق ٦٦٤


الصفحة التالية
Icon