ومن أهم العوامل التي مهدت لقراءة نافع ومكنت لها في المناطق المغربية عموما، أن الرعيل الأول من رواتها من الرواد كانوا يعودون إلى بلدانهم وقد جمعوا بين رواية القراءة والفقه معا، بالأخذ عن مالك ونافع أو عن الآخذين عنهم وهكذا كان لهذه الظاهرة أثرها البارز في نشر القراءة والمذهب دفعة واحدة، سواء في افريقية والمغرب أم في الأندلس، كما كان لها أثرها المكين في التشجيع على اعتماد القراءة المدنية التي كان نافع إمام الناس فيها باعتبارها قراءة إمام المذهب. وعلى غرار ما وقع في مصر حيث كان كبار فقهائها ـ كما سيأتي ـ تلامذة لمالك ونافع معا، كعبد الله بن وهب وأشهب بن عبد العزيز وابن القاسم، وقع في الأندلس على أيدي حملة الرواية عن الإمامين معا ممن سمينا من رواد الرحلة العلمية آنفا، كالغازي بن قيس وأبي موسى الهواري ويحيى بن يحيى الليثي، ووقع نظير ذلك في افريقية والقيروان على أيدي أمثالهم من الرواد كما تقدم، ثم على أيدي الآخذين عنهم من أمثال محمد بن برغوث وسحنون وأصحابه، إذ كان لهم من الوفرة ونفاذ الأمر عند أولي الأمر ما وضعوا به ثقلهم في الميدان، فاستطاعوا أن يفرضوا "المدنية" في جميع الميادين، وأن يقاوموا آثار المدرسة العراقية هناك، ولعله يكفي في تقدير عددهم وسعة نفوذهم في حياة مالك نفسه، ما قاله مالك للمهدي العباسي لما طلب منه أن يضع له كتابا يحمل الأمة عليه، فقال له يا أمير المؤمنين، أما هذا الصقع فقد كفيتكه"(١).
العامل الخامس: تشجيع السلطة الحاكمة وتدخلها المباشر.
ثم بعد تمام الخطبة التي استغرقت صفحة ونصفا من الأخرى ختم بذكر فضل كتاب الله وقراءته، ثم ذكر أن من أحسن ما فيه صنف، وفي قراءته ألف، قصيدة أبي القاسم الشاطبي ـ رحمه الله ـ.. ثم ذكر نحوا مما نقلناه آنفا عند استعراض آراء العلماء في الشاطبية، ثم قال :
"ولم أزل منذ حفظي لها مولعا بالنظر في معانيها، مغرى بتأمل مقاصدها ومناحيها، مستفتحا باب مبهمها، متعرضا لإفصاح معجمها، إلى أن منح الله الكريم ما كنت من ذلك أروم، وأعثرني على ما كنت منه(١) أحوم، فوضعت هذا الكتاب مبينا فيه مقاصده، وممهدا قواعده، وموضحا مشكلات إعرابه، ومستوفيا لفصوله وأبوابه، مع ما أوردته من تعليل وتوجيه لوجوه القراءات، بعبارات مهذبة، وألفاظ مقربة...
وهكذا تابع الحديث عن منهجه، ثم شرع في بيان معاني أبيات القصيدة إلى نهايتها. وطريقه في ذلك أنه يعمد إلى حل معاني الأبيات ويستوفي إعرابها، ويذكر القراءة وتوجيهها من جهة العربية، ولا يتعرض لمسائل الخلاف بين الأئمة كالداني ومكي واين شريح والمهدوي وغيرهم إلا نادرا، كما أنه لا يكاد ينقل عنهم، ويكثر عنده النقل عن شيخه أبي عبد الله محمد بن القصاب(٢).
وقد سد بهذا التأليف في زمنه بالنسبة للمغاربة فراغا كبيرا، إذ كانت شروحها المشرقية أو المغربية التي كتبت في المشرق ما تزال حتى هذا العهد محدودة الاستعمال وقليلة في الأيدي، وقد اعتمده الأئمة كثيرا، ونقل عنه أبو عبد الله الخراز (٧١٨) في حياة مؤلفه كما نجد ذلك مبثوثا في شرحه على الدرر اللوامع لابن بري، حيث نجده يقول: "قال صاحبنا الأستاذ أبو عبد الله(٣)، أو يقول :"قال صاحبنا الأستاذ أبو عبد الله محمد الجرومي.. (٤).
(٢) - كما في حديثه عن الفصل بين الهمزتين بمد.
(٣) - القصد النافع لبغية الناشئ والبارع ورقة ٦٢-٥١-١٠٤-١٠٥ (مخطوطة الخزانة العامة بالرباط رقم ٣٧١٩).
(٤) - ورقة ٤٩.