هذا العامل منبثق عن العامل السابق، وذلك أن أولئك الرواد العائدين من الرحلة كانوا في آن واحد في الغالب حملة للقراءة وفقهاء في المذهب المالكي، فكانت رحلاتهم تلك ومنزلتهم من العلم ترشحهم لاحتلال المناصب والوظائف الهامة في مناطقهم حين العودة، فكان طبيعيا أن يعملوا حين تولي هذه المهام على تشجيع القراءة والفقه معا على نحو ما قرأوا به على مشايخهم بالمدينة. وذلك ما نبه عليه في الجانب الفقهي أبو محمد بن حزم في ملاحظته القيمة المشهورة إذ يقول:
"مذهبان انتشرا عندنا في أول أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف(١)كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى عمل افريقية، فكان لا يولي إلا أصحابه والمنتسبين لمذهبه، ومذهب مالك عندنا بالأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاة، وكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا والرياسة، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به، على أن يحيى بن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائدا في جلالته عندهم، وداعيا إلى قبول رأيه لديهم، وكذلك جرى الأمر بافريقية لما ولي القضاء بها سحنون بن سعيد، ثم نشأ الناس على ما انتشر"(٢).
(٢) - مجموعة رسائل ابن حزم الملحق رقم ١٣ الجزء الثاني ٢٢٩ ـ وجذوة المقتبس ٣٨٣-٣٨٤ ترجمة ٣٠٩.
ونقل عنه أبو الفضل بن المجراد في مواضع من شرحه من أهمها هذا النص الذي يكشف لنا عن بعض شيوخه من الأئمة المتصدرين بسبتة ـ كما تقدم ـ ممن لا يذكر أحد أخذه عنهم، يقول ابن المجراد في "إيضاح الأسرار والبدائع" على ابن بري عند قوله : وباء اسرائيل ذات قصر هذا الصحيح عند أهل مصر :"وهذا الحكم المذكور إنما هو في الوصل، وأما في الوقف فقال ابن آجروم في "قرائد المعاني" :"لا يجوز فيه إلا الطبيعي كما في الوصل، لأنه إنما ترك مد الياء في الوصل خوفا من أن يجمع في كلمة واحدة بين مدتين مع كونه أعجميا، وهذا بعينه موجود في الوقف، وقد سألت عن ذلك شيخنا أبا القاسم بن الطيب الضرير(١) فقال ما هذا نصه :"وأما مد "القرءان" في الوقف وما أشبهه مما يترك ورش مده في الوصل، فإنه يجري في غيره من حروف المد في الوقف، لأن اختلافهم في مده مبني على الإعتداد بما يسكنه الموقف هل يجري السكون العارض مجرى الأصلي أم لا ؟ انتهى كلامه ـ قال ـ : فانظر كيق ساوى بين "القرءان" "والظمئان" "واسراءيل" والقياس يوجب ما تقدم من التفصيل والله أعلم." انتهى كلام ابن آجروم(٢).
١٩- شرح الشاطبية ليوسف بن أبي بكر المعروف بابن خطيب بيت الأبار(ت سنة ٧٢٥).
ذكره حاجي خليفة في الكشف وقال : في مجلدين ضخمين(٣)، ولعله غير الشرح التالي:
٢٠- شرح يوسف بن أسد الخلاطي العباسي أو "كشف المعاني في شرح حرز الأماني".
(٢) - إيضاح الأسرار والبدائع لابن المجراد (باب المد)، ونقل عنه في ذكر ميم الجمع وباب الهمز والنقل وغير ذلك.
(٣) - كشف الظنون ١/٦٤٨.