وقيل عن مبلغ تأثيره في التوجيه: "انتهت إليه الرياسة في العلم بالأندلس، وانتهى السلطان والعامة إلى رأيه"(١). فلا بد إذن أن يكون لاستقلال شخصيته العلمية وقوة نفوذه عند لسلطان والعامة أثر بارز في الأخذ بالمذاهب المدنية، لاسيما في القراءة والإقراء، إذ كانت هذه المهام داخلة فيما يكون للعلماء رأي فيه، والناس في هذا العهد تبع لما يقرره هؤلاء ويرتضونه، ولاسيما إذا اعتبرنا ما ذكره ابن حزم من تولي أصحاب يحيى للقضاء واستبدادهم به"إذا كان لا يولي قاض إلا بمشورته، ولا يشير إلا بأصحابه".
ولقد أوتى إلى جانب أولئك القضاة بطانة علمية رفيعة المقدار، كان لها أثرها في الرياسة العلمية وقيادة الحركة الفقهية والتوجيهية، من أمثال أبنائه الثلاثة: عبيد الله وإسحاق ويحيى، وتلامذته عبد الملك بن حبيب والعتبي وابن مزين وابن وضاح وبقي بن مخلد.
وإذا كان قد قيل عنه: "وبه وبعيسى بن دينار انتشر مذهب مالك بالأندلس"(٢)، فإننا نعتبره أيضا ومعه رفاقه "المدنيون" وأصحابه الذين مارسوا القضاء والتوجيه وراء ترسيم قراءة نافع واعتمادها قراءة جامعة بالأندلس.
وبالمثل فقد كان لسحنون وأصحابه مثل ذلك في افريقية، فقد كان القضاة منهم متوزعين على المناطق، وكان سحنون منهم بمنزلة الرقيب أو النقيب الذي يسيرهم من القيروان بما يرسم لهم من توجيهات وتعليمات(٣)،
(٢) - شجرة النور الزكية ٦٤ الطبقة ٥.
(٣) - ولي القضاء من أصحابه كثير فمنهم القاضي أبو الربيع سليمان بن عمران ولي قضاء باجة القيروان وولي قضاء افريقية بعد سحنون (١٨٣-٢٧٠) ترجمته في شجرة النور الزكية ٧١ الطبقة ٦. ومنهم صاحبه أبو خالد يحيى بن خالد السهمي ولي قضاء الزاب، وكتب له سحنون سيرة يعمل عليها ويطالعه بما كان". وله قصيدة في مدح المدينة وعلمائها ومدح سحنون "ويمكن الرجوع إليها في ترجمته بترتيب المدارك ٤/٤٠٥ ومن قصيدته قوله:
وعلم الحجازيين أهل مدينة الرسول فطالبه ولا تعده فترا
ومنهم عيسى بن مسيكن الافريقي الذي قيل كان يقتدي بسحنون في كل أموره. ترتيب المدارك ٤/٣٣١-٣٥٠. ومنهم سليمان القطان، ولي قضاء باجة ثم صقلية، وبه انتشر مذهب مالك هناك (٢٨٢-) شجرة النور ٧١ طبقة ٦. ومنهم علي بن سالم البكري وهو ابن سحنون من الرضاعة ولاه قضاء صفاقس والساحل. ترتيب المدارك ٤/٤٠٦.
وجعلني ممن حباه بهذا الإكرام، تلقيته بالقبول، وألفيته عتبة للوصول، وألقيت به جراني وحمدته على ما أولاني... ثم تحدث عن حرز الأماني فقال : ثم حبب الله إلي هذه القصيدة فحفظتها في دروس وأنا في الثلاثين بمدينة السلام، ولم أجد لشيوخها بها كثير اهتمام، فكابدتها وحيدا من الجليس، فقيد الأنيس، وتكفلت بتصحيح ألفاظها، وفهم معانيها، إلى أن أحلني الله بحبوحة مغانيها، وكنت أستغرق في الفكر حتى يغشاني النعاس مرارا، فأرى بين يدي أسفارا، فأستقرئها فإذا فيها شرح الأبيات التي أنا فيها، فتارة يسبق إلي، وتارة يغلق علي.
"ولما فجرت ينبوعها، توطن محصولها ربوعها، وها أنذا ممهد لك أيها الطالب أصولا تبين درره، وفصولا تعين غرره، إن حققت النظر، وأعملت الفكر، انحلت لك غرائب رموزه، وانهلت عليك مطالب كنوزه، تناءيت به عن الإملال، وتجافيت عن الإخلال، ووشحته بإختلاف أقوال الشارحين، مبينا ما طابق كلام الناظم أو مذاهب الناقلين، ورشحته بمحاسن التعليل، مبينا متين الدليل، ومضيت على اختياري من القراءات، غير مقلد أحدا من أرباب الإختيارات، ذاكرا جهة الترجيح، وهو الأفصح من الفصيح، ووجهت ما يرد عليه من إشكال، وأجبت عما ظفرت به من سؤال، ولعمري إن جل ما أثبته إنما هو مجموع من نقولهم، وتفريع على أصولهم، ولقد نزلت بمنزل قد حله العلماء قبلي، وغرفت من سلسالهم ما طاب من طلي ووبلي.."
"وكل كل على فاتح وصيدها، وماتح نضيدها، الشيخ العلامة تاج القراء، وسراج الأدباء، علم الدين أبي الحسن السخاوي جزاه الله عنا خير الجزاء.
"فلما رأينا ازدحام خطابها، رفعنا لهم منيع نقابها، ثم استأثرت بمباحث وترتيب، ومآخذ وتهذيب، وتفريع معجز، في أسلوب موجز، ونقول جمة، تثير الهمة، إذا وفقت عليها، علمت أني لم أسبق إليها.