وكان من توابع هذا الاستقلال ونتائجه تحقيق استقلال آخر، في الجانب الفقهي والفكري والمذهبي شمل فيما شمله الأخذ بمذاهب أهل المدينة في فقههم وقراءتهم، وذلك ما سبق إلى ملاحظته الإمام أبو بكر ابن العربي في سياق تعليله لسيادة المذهب المالكي في قوله: "ولما ظهرت الأموية على المغرب، وأرادت الانفراد عن العباسية، وجدت المغرب على مذهب الأوزاعي، فأقامت في قولها رسم السنة، وأخذت بمذهب أهل المدينة في فقههم وقراءتهم، وكانت أقرب من إليهم قراءة ورش، فحملت روايته، وألزم الناس حرف نافع ومذهب مالك، فجروا عليه، وصاروا لا يتعدونه"(١).
ولا شك أن إشارته بقوله "وألزم الناس" إلى دور السلطة الحاكمة من سياسية وقضائية في اعتماد هذه القراءة وحدها إلى جانب المذهب المالكي. وقد كان مبدأ هذا الإلزام كما يقول عياض بالنسبة للمذهب ـ في عشرة السبعين ومائة من الهجرة في حياة مالك ـ رحمه الله ـ فالتزم الناس بها من يومئذ هذا المذهب وحموه بالسيف عن غيره جملة"(٢).
ولقد ترجمت الدولة يومئذ هذه الحماية إلى واقع عملي، وذلك في جملة من المراسيم التي صدرت إلى مختلف الجهات بذلك، كما تجلت في نوع الشخصيات العلمية التي كان يعهد إليها بالمأموريات الرسمية كالقضاء والإمامة والإقراء وتأديب أبناء الأمراء ورجال الحاشية(٣).

(١) - العواصم من القواصم ٢/١٩٩.
(٢) - ترتيب المدارك ١/٢٦-٢٧.
(٣) - قد تحدثنا في أول الباب عن صور من ذلك.

المعروف بابن درى(١) (ت سنة ١١٥٠)، وكان من موالي المولى إسماعيل بن علي الشريف، قال ابن زيدان في الإتحاف في ترجمته :"شرح الجعبري شرحا عجيبا متقنا في مجلدات بأمر من سيدي أحمد بن مبارك(٢) لما ورد عليه لمكناس عام ١١٣٥، وأقام ضيفا لديه بداره أياما، وفقت على الأول والثاني من هذا الشرح بخزانة البحاثة الرحال المولى عبد الحي الكتاني، فإذا هو شرح ممتع جمع فأوعى، وبرهن على إقتدار المؤلف وطول باعه في الفنون، تاريخ إنتهاء كتابة الجزء الأول ١٦ شعبان عام ١١٢٨هـ"(٣). قال : وفي هذا الشرح يذكر إقتراح شيخه أحمد بن مبارك السجلماسي المذكور عليه تأليفه بقوله: ثم أمرني ـ أيده الله ـ بشرح "كنز المعاني" وحل كلمه الصعبة المباني، فاعتذرت له بما أنا أهله من التقصير، وسطوات الجهل والعجز والتحصير، وخاطبه لسان حالي بقول القائل:
ما أنت أول سار غره قمر ورائد خدعته خضرة الدمن(٤).
فرأيت هنالك مهامه تحار فيها القطا، وشوامخ تكل عند اقتحامها الخطا، ثم
وفقت أتأمل الخوف عند فجأتها، لكن قدمت الرجاء عند رؤيتها، فقال لي: اشرح بلا توان، وتوكل على الله المستعان..(٥).
وما يزال هذا الشرح النفيس ينتظر في الخزائن من ينفض عنه غبار الإهمال(٦).
(١) - يكتب أيضا ابن درا "ويقال" ابن دراوة".
(٢) - ذكره قبل في مشيخته ووصفه بالحافظ سيدي أحمد بن مبارك الفيلالي.
(٣) - إتحاف أعلام الناس ٥/٥٣٦-٥٤١.
(٤) - البيت للقاسم بن علي الحريري صاحب المقامات كما ذكره بهامش بغية الوعاة للسيوطي ٢/٢٥٩ ترجمة ١٩٢٧. وانظر مقدمة شرح مقامات الحريري للشريشي: ١/١٣.
(٥) - إتحاف أعلام الناس لابن زيدان ٥/٥٣٦- ٥٤١.
(٦) - توجد منه نسختان بالخزانة الحسنية برقم ٣٥٠-٨٤٢٧ كما ذكر في فهرسة الخزانة ٦/٩٦، وبالخزانة العامة بالرباط السفران الأول والثاني تحت رقم ك ٣١٤.


الصفحة التالية
Icon