وربما استعمل أهل الأندلس هذه النسبة يريدون بها أهل افريقية والمغرب الأقصى أو أهل القيروان كقول أبي عمرو الداني: "وكان قوم من "المغاربة" يرون ترقيق الراء الساكنة إذا كان بعدها ياء مفتوحة للكل وبعضهم لورش"(١). وكقول أبي جعفر بن الباذش في مد نحو "ءامنوا" وقد تنازع القراء في هذا الأصل، فمنهم من أخذ فيه لورش بالمد الطويل المفرط، وعلى ذلك "المغاربة"(٢).
فالمراد بالمغاربة عندي القراء المنتسبون إلى هذا الإطار الجغرافي بمفهومه القديم الذي يمتد في طوله من ضفة النيل بالإسكندرية من جهة المشرق إلى مدينة سلا من جهة المغرب، وينفسح عرضا عن يمين وشمال ليشمل سائر بلاد الجريد الليبية (الزاب الأعلى)، وافريقية (المغرب الأدنى) والمغرب الأوسط (الزاب الأسفل) إلى مدينة تاهرت ثم ينتظم سائر "بلاد العدوة" أو المغرب الأقصى من سبتة وطنجة في الشمال إلى بلاد تامسنا ومراكش وسلاسل الجبال وبلاد السوس الأقصى والصحراء المغربية، ويشمل في العدوة الأخرى سائر الجزر البحرية المسامتة للشواطئ المغربية كصقلية ومالطة وسائر البلاد الأندلسية(٣).
فاستعمال لفظ المغرب والنسبة إليه في أكثر استعمالاته في هذا البحث يرادف مفهوم مصطلح "الغرب الإسلامي" ويشمل الأقطار الداخلة اليوم في "الاتحاد المغاربي" الذي يشمل ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريطانيا".

(١) - نقله الجعبري في "كنز المعاني" عند قول الشاطبي: "وما بعده كسر أو الياء فما لهم بترقيقه نص وثيق فيمثلا".
(٢) - الإقناع لابن الباذش ١/٤٧٤.
(٣) - هذا التحديد والتفصيل مستفاد من "البيان المغرب" لابن عذاري المراكشي ١/٥-٦ وكتاب "الاستبصار في عجائب الأمصار" لمؤلف من أهل السادسة ومن أهل مراكش ١١٠-١٣٩ وما بعدها وكتاب "صفة جزيرة الأندلس الجزء المقتبس من "كتاب الروض المعطار" للحميري ١-٢. والمعجب للمراكشي ١٣-١٨.

وقال فيه ابن الجزري: "أستاذ ماهر أديب حاذق، صاحب القصيدة الرائية في قراءة نافع.." (١).
وقال السيوطي في البغية: "كان من أهل العلم بالقراءات والنحو، شاعرا مشهورا ضريرا.." (٢).
وقد أفادنا ابن الأبار في التكملة: ٣/١٥١ ترجمة ٣٧٩ أن الحصري كان يحفظ كتاب "الهادي في القراءات" لأبي عبد الله بن سفيان، وأن بعض أصحابه من أهل دانية رواه عنه.
أما هو فقد قدم إلينا نفسه من خلال مقدمته النثرية التي صدر بها قصيدته الرائية في قراءة نافع ـ كما قدمها لنا من خلال قصيدته المذكورة مقرئا جليلا حافظا للسبع بارعا في الأصول الأدائية على مذهب القيروانيين، بل انه يقدم إلى الناس نفسه في مقدمته المذكورة مقرئا متصدرا اختاره أمير سبتة ثم ابنه للقيام بهذا الشأن واختارا له العمل في هذا الوجه بعد أن وفد عليهما شاعرا في جملة من كان يفد على امارتهما من الشعراء، وفي ذلك يقول:
"ومن الحق الواجب، أن يدعو للمنصور و"الحاجب"(٣)، فهما فجرا هذا النهر من بحري، واستخرجا هذه الدرر من نحري، بصفحهما الجميل، وإحسانهما الجزيل، جزاهما الله حسن ثوابه، كما أجلساني لإقراء كتابه، وأخرجاني من ظلمة الشعراء، إلى نور القراء"(٤).
وهكذا نجد هذه الازدواجية العجيبة في شخصية هذا الإمام، وهي ازدواجية أفاد منها الجانب الأدبي كما أفاد منها الجانب القرائي(٥)،
(١) - غاية النهاية ١/٥٥٠ ترجمة ٢٢٥٠.
(٢) - بغية الوعاة ٢/١٧٦ ترجمة ١٧٣١.
(٣) - لقب سقوت نفسه من ألقاب الخلافة بـ"المنصور المعان" كما في الذخيرة القسم ٢ المجلد ٢/٦٥٨.
(٤) - ستأتي هذه المقدمة عن قريب.
(٥) - تتمثل إفادة الجانب الأدبي من ثقافته القرآنية في طائفة من محاسن الاقتباس ولطائف من التوريات مستمدة من علوم القراءة، كقوله مثلا في بعض ممدوحيه:
محبتي تقتضي ودادي...... وحالتي تقتضي الرحيلا
"هذان خصمان" لست أقضي...... بينهما خف أو أميلا
نقله في بغية الوعاة ٢/١٧٦. فقوله: "هذان خصمان "مأخوذ من قوله تعالى في سورة الحج: "هذان خصمان اختصموا في ربهم". وكقوله في ندب وطنه القيروان :
"ولم يزل قابض الدنيا وباسطها...... "فيما يشاء له محو وإثبات".
فقوله في الشطر الأخير مأخوذ من قوله تعالى في آخر سورة الرعد: "يمحو الله ما يشاء ويثبت".
ومن تأثير حذقه في علوم القراءة في نثره ما جاء في قطعة طويلة خاطب بها أبا الحسين بن الطراوة متندرا به: "يا مهموس، أنا الطاء وأنت الهواء، فلست من طباقي، كم بين همسك وإطباقي..." ـ الذخيرة القسم ٤ المجلد ١.
ومن تأثير رسوخ قدمه في القراءات وتاريخها قوله في رثاء ولده:
كأنك في السبع القراءات "طاهر" وفي الشعر "غيلان" وفي الفقه "أصبغ"
وقوله فيه:
أعزي وصوتي بالنعي أمده...... كما مد بالتحقيق حمزة أو ورش
ينظر ديوان: اقتراح القريح واجتراح الجريح.


الصفحة التالية
Icon