وقد تتبعت أسماء الكتاتيب التي ورد ذكرها في أقرب مصدر يؤرخ لعصر نافع، وهو كتاب تاريخ المدينة المنورة لأبي زيد عمر بن شبة، فإذا هو يذكر منها جملة كبيرة موزعة على المواقع التي فيها مساكن المهاجرين والأنصار بالمدينة(١)، مما يدل على أنها ظاهرة عامة، الأمر الذي يجعل اشتغال نافع في شبابه بالعمل في بعضها أمرا جائزا ومقبولا، إلا أن هذا الاشتغال لم يكن فيما يبدو يحول بينه وبين التردد على بعض أشياخه لاستكمال ثقافته في القراءة وعلوم الرواية، ولعله كان منذ أن بدأ في الاحتكاك بطبقة من القراء والمعلمين، يضع نصب عينيه أن يواصل التحصيل وارتياد حلقات الأكابر على أمل الوصول إلى مستوى علمي يكفل له النباهة في هذا الشأن والشفوف فيه على الأقران، على ما كان يأخذ به الموالي أنفسهم في غالب الأحيان من مثل هذه المطامح، وعلى ما هو ملاحظ بجلاء في إقبال كثير منهم على علوم الرواية خلال الصدر الأول، بصورة جعلتهم يبزون أبناء السادة الأماثل، بل بلغ بعضهم فيها إلى مستوى الإمامة.
ولقد أخذت الشاطبية في المدارس الرسمية موقعها وأمست من المواد المعتمدة التي لا يعترف للعالم بمكانته إلا إذا كان له منها حظ ونصيب، ولذلك أنشئت لها الأوقات الخاصة كما قدمنا، ودخلت ضمن مواد الدراسة في ما كان يعرف ب"الكراريس"(١) أو "آلة القراءة"كما عبر عن ذلك بعض المتأخرين حيث إنه سافر للأخذ عن بعض القراء الآخذين من أفواه مشايخهم المجودين للقرآن بـ(آلة القراءة) كالشاطبية وغيرها من آلة القراءة"(٢).
ولا أدل على مبلغ هيمنة الشاطبية وشروحها على الميدان من كوننا لا نجد اليوم على كثرة قراء السبعة ووفرتهم من يقرأ بغير طرقها في المغرب سواء في شماله أم في جنوبه، بل نجد رموزها وحدها هي المستعملة في الرمزيات والرسميات المستعملة في جمع القراءات، وهي المنظومة في القصائد المعتمدة في ذلك.
ويكفي في الدلالة على سعة إستعمال شروحها واعتمادها عند المتأخرين حتى في البوادي ما ذكرناه من أنه كان في القرن الماضي (الرابع عشر الهجري) ثمانية عشر أستاذا يدرسون الجعبري(٣) وذلك في بلد واحد وهو دكالة القبيلة المشهورة بالجنوب المغربي.
(٢) - ملتقط الرحلة من المغرب إلى حضر موت ليوسف بن عابد الإدريسي الحسني الفاسي ٣٢.
(٣) - انظر كتاب متعة المقرئين للعلامة عبد الله الجراري: ٩٢-٩٣ ودعوة الحق العدد: ٤ ١٣٨٧هـ -١٩٦٨.