ومن الطريف ما يلاحظ بالنسبة لأولئك الموالي أنه كان لهم بالمدينة وجود قائم متميز في بعض الأحداث السياسية فكانوا في موقعة الحرة التي دارت بين أهل المدينة وجيش يزيد بن معاوية سنة ٦٣هـ ـ يشكلون وحدة عسكرية متلاحمة لها قيادة خاصة، ومن الطريف أن قائدهم بها كان من موالي بني ليث ـ وهم موالي نافع ـ وهو يزيد ابن هرمز" وكان أمير الموالي يوم الحرة(١)، "وكان ثقة كثير الحديث، وتوفي في خلافة عمر بن عبد العزيز".
ومهما يكن فسوف نرى نافعا الطالب النجيب بين حلقات العلم ومجالس الإقراء، إلى أن ينال طلبته من ذلك، وتترامى به الحال فيشارف مراكز الشفوف ومناصب العلية من الشيوخ، وذلك في حياة طائفة من أساتذته الأجلاء.
بيت نافع بالمدينة
ولعلة حين دلف إلى الثلاثين أو قبل ذلك أو بعده عمل على تأسيس بيته الخاص، لكن المعلومات عن هذا الطور من حياته مفقودة فيما بين أيدينا، فلم نستطع مع البحث الطويل الاهتداء إلى أي خبر أو أثر يفيدنا في هذا السبيل، وكل ما استطعنا الوقوف عليه من ذلك هو ما ذكرته مصادر ترجمته من أنه كان له أبناء سألوه لما حضرته الوفاة، فقالوا: أوصنا، فكانت وصيته إليهم قبسا من فواتح سورة الأنفال، فقال: "اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مومنين"(٢).
فقد كان إذن رب البيت، أنجب أولادا ذوي عدد، لكنا لا نعرف عنهم سوى أنهم كانوا أحياء عند وفاته في خاتمة العقد السابع من المائة الثانية من الهجرة النبوية.
ولربما كان لنا أن نتعرف على أسماء أولئك الأبناء، وأن نقدر عددهم بالرجوع إلى كناه العديدة التي تقدم أنه كان بأيها دعي أجاب، وقد رأيناها، أنها بلغت سبع كنى، فالغالب أنها مستمدة من أسماء أبنائه، على العادة المرعية يومئذ في تكريم الآباء بالكنية بأسماء الأبناء.

(١) - الطبقات الكبرى لابن سعد ٥/٢٨٤.
(٢) - السبعة لابن مجاهد ٦٣.

لا شك أن الإمام الشاطبي كان مسبوقا إلى الأخذ بأسلوب الجمع بين أكثر من قراءة في ختمة واحدة وفي أداء واحد، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في ترجمة أبي عمرو الداني وتحدثنا عن الريادة فيه، إلا أن الشاطبي –فيما يبدو- قد تميز في الأخذ والسماح به بنوع من الصرامة، بحيث لم يكن يتوسع فيه إلا بقدر الحاجة، ولا يأذن به إلا للمتأهل، وهو ما أشار إليه الحافظ ابن الجزري في معرض الحديث عن ظهور "جمع القراءات" وكراهة بعض الأئمة له" من حيث أنه لم تكن عادة السلف عليه، قال : ولكن الذي استقر عليه العمل هو الأخذ به والتقرير عليه وتلقيه بالقبول(١)، وإنما دعاهم إلى ذلك فتور الهمم وقصد سرعة الترقي والإنفراد.
ولم يكن أحد من الشيوخ يسمح به إلا لمن أفرد القراءات وأتقن معرفة الطرق والروايات، وقرأ لكل قارئ ختمة على حدة، ولم يسمح أحد بقراءة قارئ من الأئمة السبعة أو العشرة في ختمة واحدة فيما أحسب إلا في هذه الأعصار المتأخرة.
(١) - التلقي بالقبول هنا إنما ينظر إليه في إطار التعلم والتلقي عن المشايخ اختصارا للوقت، فهذا المقول بجوازه عند من أجازه وأخذ به، أما في غير هذا كالقراءة في الصلاة أو في المحافل العامة فيبقى على أصله في المنع، وذهب بعض العلماء إلى المنع مطلقا وسد هذه الذريعة التي تطرق منها المبتدعة إلى فساد كبير. في قراءة القرأن والحفاظ على نظمه وحسن تجويده وأدائه (ينظر في هذه المباحث كتاب الآيات البينات في حكم جمع القراءات لأبي بكر بن محمد علي بن خلف الحسيني في رده على صاحب "هدية القراء والمقرئين"- مطبوع.


الصفحة التالية
Icon