إلا أننا ـ مع الأسف ـ لا نجد لأحد من أبنائه ذكرا في أسماء القراء ولا في رواة العلم في الجملة، على خلاف ما كان متوقعا، إلا أن سير العلماء من معاصريه تنأى بنا عن استغراب افتقادنا لأبنائه في الرواة عنه، فقد كان من القليل النادر قيام الرجل في العلم مقام والده، وقد جاء عن مالك بن انس ـ رحمه الله ـ أنه إذا رأى مقدار إقبال الغرباء وأبناء المهاجرين والأنصار على أخذ العلم والرواية عنه، ورأى ولده يحيى(١)يدخل ويخرج دون أن يأخذ فيما يأخذ فيه غيره، يقول لجلسائه في حسرة ظاهرة: "مما يهون علي أن هذا الشأن لا يورث، وأن أحدا لم يخلف أباه في مجلسه، إلا عبد الرحمن بن القاسم(٢).
ولكن كان من نصيب نافع في هذا الشان أن كان الذي تولى خلافته على إمامة الإقراء بالمدينة من بعده هو تلميذ له نشأ في بيته، إذ كان كما قيل ربيبه ابن زوجته، وهو عيسى بن مينا المعروف بقالون(٣)الذي ذكر أنه كان "يقرئه قراءة الفراش ـ يعني الدار"(٤).

(١) - أمسى ولده يحيى من الرواة المعدودين للموطأ فيما بعد، وله عنه نسخة من الموطأ كانت تروى باليمن – ينظر في ذلك كتاب الديباج المذهب لابن فرحون ١٨.
(٢) - ترتيب المدارك لعياض ١/١١٧ – والمراد عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
(٣) - معرفة القراء الكبار للذهبي ١/١٢٨-١٢٩ – وغاية النهاية لابن الجزري ١/٦١٥ ترجمة ٢٥٠٠.
(٤) - ذكره الداني في كتابه الاقتصاد في القراءات السبع، ونقله مسعود جموع في الروض الجامع (مخطوط).

حتى إن الكمال ـ صهر الشاطبي ـ لم يقرأ عليه قراءة واحد من السبعة إلا في ثلاث خثمات، فكان إذا أراد قراءة ابن كثير مثلا يقرأ أولا برواية البزي ختمة، ثم برواية قنبل، ثم يجمع البزي وقنبلا في ختمة، هكذا حتى أكمل القراءات السبع في تسعة عشر ختمة ولم يبق عليه إلا رواية أبي الحارث وجمعه مع الدوري(١) في ختمه ـ قال ـ فأردت أن أقرأ برواية أبي الحارث فأمرني بالجمع، فلما أنتهيت إلى سورة الأحقاف توفي رحمه الله(٢).
هذا هو النمط الذي رسمه الشاطبي في مدرسته في الأخذ للسبعة، وقد أشار ابن الجزري إلى استمرار العمل عليه، فقال : وهذا هو الذي استقر عليه العمل إلى زمن شيوخنا الذين أدركناهم(٣).
ومنه تتجلى أهمية الشاطبي في هذا المضمار في رسمه للقراء معالم المنهاج السليم في جمع القراءات.
وكما تجلى أثره في هذا تجلى أيضا في أمر آخر ارتبط به بصورة تلقائية، وهو تحديد المقدار الذي يسمح به للطالب الراغب في القراءة بالجمع لضمان التحصيل وصحة الرواية والعرض، وإلى هذا أشار السخاوي بقوله في كتابه جمال القراء: وكان شيخنا أبو القاسم ـ رحمه الله ـ أخذ بذلك يعني بأرباع أجزاء الستين على من يجمع القراءات، فيقرأ عليه الجزء من الستين في أربعة أيام... (٤).
(١) - يعني الراويين عن الكسائي.
(٢) - النشر ٢/١٩٤-١٩٦.
(٣) - نفسه.
(٤) - جمال القراء للسخاوي ١/١٥٤-١٥٥.


الصفحة التالية
Icon