وهذا يفيدنا أن نافعا قد تزوج بأكثر من امرأة، أو على الأقل كان له من أم قالون هذا أبناء إن لم تكن له زوجة ثانية، ولقد قيل عن قالون انه لزم نافعا خمسين سنة(١)ومعناه أنه لم يفارقه من سنة ولادته إلى وفاة نافع، وقد سئل أيضا كم قرأت على نافع؟ فقال: ما لا أحصيه كثرة، إلا أني جالسته بعد الفراغ عشرين سنة"(٢).
ذلك جملة ما وفقنا عليه من أخبار وإشارات تتصل بحياته البيتية وسماته الخلقية والخلقية، وهي على قلتها ووجازتها تساعدنا على تمثل المستوى البسيط للمناخ الاجتماعي الذي درج فيه، والبيت المتواضع الذي تربى بين ظهرانيه، والمجال الطبيعي الذي عمل في ساحته في بواكير حياته، وذلك قبل أن يتألق نجمه، وأن يعلو به الجد في فنه الذي أخلص له كل جهده، حتى بلغ فيه الشأو الذي لا يطال، واستوى له معه مقام الإمامة ومنصب المشيخة لا ينازعه عليهما أحد في بلده، فكان في طليعة هذا الرعيل الطيب الذين تجردوا للقراءة وحدها من الطبقة الثالثة من التابعين.
وكما صحبناه في نشأته محاولين تبين معالم حياته في البيت وأحوال أسرته فيما أسلفنا، نريد الآن أن نرافقه، في المناخ العلمي بالمدينة المنورة، وهو يتردد على مشايخ المقرئين، وينهل من جالس الفقهاء والمحدثين والرواة النابهين، وذلك يستلزم منا وقفة متأنية نلقي فيها نظرات على الحركة العلمية في "المدرسة المدنية"، وخصوصا في مجال علوم الرواية في عهد الطلب من حياة نافع في الربع الأخير من المائة الأولى من الهجرة، لنترسم المسار الذي سارت فيه هذه الحركة، ونتعرف على أساطينها من أكابر المشيخة وأعيان علماء الأمة، وأصحاب الحلقات والمجالس العلمية في المسجد النبوي الشريف، في الحقبة التي أدركها نافع في زمن الطلب، وهي في أوج ازدهارها وقمة عطائها العلمي، فكان لها أثرها البعيد في تكوينه الرفيع وإمامته العالية.

(١) - النجوم الطوالع للمارغني ١٦-١٧.
(٢) - غاية النهاية ١/٦١٥ ترجمة ٢٥٠٩.

وقد تمثل أصحابه من بعده طريقته في التدريس ووصفوها باعتبارها النموذج المحتدى والطريقة المثلى، وقد حكى صاحبه أبو الحسن السخاوي عنه أنه عند الإقراء كان يجلس على طهارة نعلم ذلك منه بأنه كان يصلي الظهر بوضوء الصبح، وكان إذا أذن المؤذن لصلاة الظهر انتصب قائما يستبرئ نفسه ليعلم هل يحتاج إلى الوضوء؟ فإن رأى ذلك توضأ، وإلا صلى على حاله تلك، وكان لا يسجد إذا قرئت عليه السجدة، ولا يسجد أحد ممن يقرأ عليه، وكذالك كانت سنة أشياخه ـ والله أعلم ـ لأنه كان شديد الإقتداء بمن أخذ عنه(١).
ومن هذا القبيل أيضا ما حكاه عنه السخاوي من التزامه لهذا الدعاء عند ختم القرءان، وهو قوله :
"اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك وأبناء إيمائك نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك عدل فينا قضاؤك إلخ...
قال السخاوي: فهو دعاء مروي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتفريج الهم، وأنا أدعو به وأزيد عليه:
اللهم اجعله لنا شفاء وهدى وإماما ورحمة وذكر باقي ما زاده"(٢).
تلك منزلة الإمام الشاطبي قارئا ومقرئا ومؤلفا وإماما في الفن، ومكانته عميدا للمدرسة الأثرية الدانية التي يدين لها وتدين له بالفضل، وذلك مقامه أيضا رائدا للمدرسة المغربية في القراءة وعلومها في ديار المشرق، وثمرة زاكية من ثمارها اليانعة في عهد التلاقح بين مدارس الإقراء في المغرب والأندلس بعد اكتمال الوحدة بينهما وحدوث التلاقي بين عامة المؤثرات الفنية المنبثقة عن مدارس الأقطاب التي انتظمت خلالها مختلف المذاهب الأدائية التي تعزى إلى الأئمة القائمين على هذه الصناعة في المشرق والمغرب.
(١) - المصدر نفسه ٢/٤٨٠.
(٢) - نفسه ٢/٦٤٦ ونحوه في برنامج التجيبي ٢٨-٢٩.


الصفحة التالية
Icon