مدرسة القراءات بالمدينة، نشأة وتطورا:
لعل مكانة المدينة المنورة باعتبارها دار الهجرة ومنزل الوحي وقاعدة الإسلام الأولى لا تحتاج منا إلى إفاضة في البيان، إذ كتب لها أن تكون المجال الرحيب الذي تبلورت فيه دعوة القرآن، وتجسدت فيه العقيدة والشريعة المنزلة في الواقع العملي، وتنامي فيه المنهج الرباني في تربية الأمة الناشئة لترتفع إلى مستوى الخلافة في الأرض، ولا ريب أن القرآن الكريم كان سلاح الدعوة ووسيلتها العظمى في الجهاد اليومي، وعماد حركتها الراشدة في تألف الناس على دعوة الإسلام كما أمر الله به نبيه عليه الصلاة والسلام في قوله سبحانه: "فلا تطع الكافرين، وجاهدهم به جهادا كبيرا"(١)وكما في الخبر عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ مرفوعا قالت: "فتحت المدائن بالسيف، وافتتحت المدينة بالقرآن"(٢).
(٢) - ترتيب المدارك لعياض ١/٣٦، وفي ثبوت الحديث مقال يراجع فيما كتبه محققه رحمه الله الأستاذ محمد بن تاويت الطنجي بهامش رقم ٢ من الصفحة المذكورة من ترتيب المدارك.
ولعلنا قد استطعنا من خلال ماعرضناه من آثار هذا الإمام وما كان لها من إشعاع علمي في مختلف العصور أن نقوم برسم المعالم البارزة في مدرسته، وأن نقدم للقارئ الكريم شخصيته العلمية الفذة كما عكستها الحركة النشيطة التي قامت على أعماله في هذا الشأن، ولا سيما منها ما قام حول حرز الأماني التي كانت وما تزال دستور القراء، وعمدة مدارس الإقراء.
ولعلنا أيضا قد تمكنا من تمثيل مستوى الثقل العلمي الذي نزل به الإمام الشاطبي في الميدان باعتباره رائدا لمدرسة أبي عمر الداني في المشرق وعميدا لهذا الإتجاه الفني والأداء المتميز الذي ظل منذ ظهوره يعمل على الإحتواء على الساحة والهيمنة على غيره من الاتجاهات التي كان حملتها من طلاب المدارس المتفرعة عن مدارس الأقطاب يعملون دائبين على نشرها والدفع بها لاكتساب مزيد من البسطة والانتشار.
ولعل القارئ الكريم قد أدرك إلى أي حد استطاع الشاطبي أن يفرض على الميدان اختيار مدرسته، وكيف تأتي له بسط نفوذها على غيرها حتى في الآفاق المشرقية التي كان القراء المغاربة طالما شدوا الرحال إليها في طلب هذا الأمر، كما لعله أيضا لمس كيف تمكن من رسم المسار "الرسمي" للقراءة ومستقبلها في مواجهة اختيارات المدارس التي ظلت إلى زمنه في انتظار من يرسم لها معالم الطريق نحو الأخذ بأقوى المذاهب وأقومها في القراءة والأداء، احتياطا لكتاب الله، واكتفاء في قراءته وأدائه بالسائر المشهور من الروايات والطرق والوجوه، فكان ظهور الإمام الشاطبي- رحمه الله- في هذا العلم وفي هذا الطور بالذات، منعطفا عظيم الأهمية في تاريخ القراءات في المشرق والمغرب على السواء.
ولقد ظلت مدرسة الإمام الشاطبي منذ هذا العهد محورا للنشاط القرائي، وظلت الشاطبية قطب المدار في البلدان الإسلامية عامة لا يكاد يزاحمها على مقام الصدارة أثر أو يحد من سيطرتها كتاب.