ولقد كان لهذه الخاصية بلا شك أثرها في اجتماع أهل المدينة على قراءته، وكان من نتائج ذلك أن جاءت عامة القراءات المتواترة في الأمصار ـ بما فيها قراءات القراء السبعة ـ مسندة من طريق أبي كما سيأتي في أسانيد مشيخة نافع نفسه
ولا شك أن الصحابة الذين تحملوا عن رسول الله ﷺ عدد كبير، إلا أن منازلهم في العلم والفهم كانت متفاوتة، كما أن نبوغ النابغين من علمائهم إنما برز في ميدان دون غيره، واختص أبي من بينهم بالتبريز في ميدان القراءة، ويتجلى هذا التمايز بين علية الصحابة في ذلك فيما أخرجه أحمد والنسائي بالسند عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"(١).
وقد روى عن عمر من وجوه: "علي أقضانا، وأبي أقرأنا"(٢)، وعن أبي سعيد الخدري ".. وأفرضهم زيد، وأقرؤهم لكتاب الله أبي"(٣).
تلك كانت مكانة أبي في المدرسة المدنية منذ أيام النبوة، وذلك كان سر الاعتراف له دون منازع بإمامة الإقراء، من لدن عامة من عاشوا معه من خيار الصحابة بالمدينة المنورة، ولذلك ولاه الخلفاء وظيفة الإقراء، وعهدوا إليه بإمامة القراء، واستندوا إلى معرفته فيما كان من هذا القبيل، كالإسهام في جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم في زمن عثمان، على القول الصحيح بأنه عاش حتى شارك في الجمع الثاني للمصحف، وكان فيما صحت به الروايات ـ مرجعا في التوثيق والضبط فيما كان يعرض للجنة تدوين المصحف من مشكلات في وجوه القراءة والرسم.
(٢) - الاستيعاب لابن عبد البر ١/٨.
(٣) - نفس المصدر والصفحة.
معالم الاتجاه التوفيقي في أصول الأداء وامتداداته
في جنوب الأندلس من خلال مدرسة أبي الحسن القيجاطي
زعيم هذا الاتجاه مع تحقيق قصيدته اللامية:
ـ التكملة المفيدة لقارئ القصيدة ـ
العدد الخامس عشر
مقدمة :
تعرفنا في عدد سابق من هذه السلسلة على إمام "المدرسة التوفيقية" أبي عبد الله محمد بن شريح صاحب "الكافي" في القراءات السبع، ورسمنا معالم منهجه واتجاهه الفني في القراءة والأداء، ثم حاولنا تتبع أهم امتدادات مدرسته في كل من إشبيلية في غرب الأندلس وغرناطة في جنوبها عند كل من أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح، وأبي جعفر أحمد بن علي بن الباذش صاحب "الإقناع في القراءات السبع".
ولقد رأينا خاصة من خلال استعراضنا لمعالم هذا الاتجاه عند ابن الباذش كيف تحقق لهذه المدرسة علي يده مزيد من الدعم، سواء علي يد رجال مدرسته الذين تخرجوا عليه في هذا الشأن، أم من طريق كتابه "الإقناع" الذي التقت فيه عامة المؤثرات الفنية لمدارس الأقطاب، سواء منها القيروانية والأندلسية والمشرقية بمختلف مذاهبها واتجاهاتها، بحيث استطاع من خلال قيادته لهذه الحركة وتأليفه لهذا الكتاب أن يبلور من تلك المذاهب والاتجاهات معالم مدرسة أصولية وفنية تنتمي في حقيقتها وأصلها إلى مدرستها "الشريحية" الأم وتشكل امتدادا لها، ولكنها أيضا ضمت إليها اختيارات المدرسة الأثرية في إطار منهجها التوفيقي الذي يأخذ بكل ما صح في الرواية وشاع به الأداء، انطلاقا من اعتماد الوجوه المأخوذ بها دون جنوح إلى الاختيار إلا في القليل النادر كما قدمنا.