ومن ذلك ما أخرجه الحافظ ابن حجر عن هانئ البربري مولى عثمان بن عفان قال: "لما كان عثمان يكتب المصاحف، شكوا في ثلاث آيات، فكتبوها في كتف شاة، وأرسلوني إلى أبي بن كعب وزيد بن ثابت، فدخلت عليهما، فناولتها أبي بن كعب، فقرأها..... قال: فنظر فيها زيد بن ثابت، ثم انطلقت إلى عثمان، فأثبتوها في المصاحف كذلك"(١).
ومن تمام الاعتراف لأبي بالإمامة في القراءة ما فعله عمر حين نصبه إماما للناس بالمسجد النبوي الشريف في صلاة التراويح، بعد أن كانوا يصلون أوزاعا متفرقين(٢). ولا يخفى ما سيكون لجمع المصلين على قراءة إمام من هذا الطراز من أثر في توحيد القراءة على نمط واحد يشترك في سماعه منه عامة المتهجدين، وما فيه أيضا من تعريف الجماعة بالقراءة "الرسمية" المعتمدة الموثقة بالعرض والسماع، وما في ذلك ثالثا من ترشيح ضمني لهذا القارئ لمنصب المشيخة وإمامة هذا الشأن، فكان أبي بهذا إحدى مفاخر الأنصار الخزرجيين، مع من معه من قرائهم الثلاثة المشهورين من هذا الفرع، كما أشار إليهم الإمام أبو عبد الله بن غازي ـ رحمه الله ـ بقوله:
افتخر الخزرج بالقراء اما شفاها أو على الأكفاء
زيد أبو زيد(٣)أبي ومعاذ وافتخر الأوس بسعد بن معاذ٣
مدرسة زيد بن ثابت الأنصاري:

(١) - المقاصد العالية في زوائد المسانيد الثمانية لابن حجر ٣/٢٨٦ – والإتقان للسيوطي ٢/٢٧١.
(٢) - الموطأ بشرح تنوير الحوالك للسيوطي ١/١٣٦-١٣٧.
(٣) - إرشاد اللبيب إلى مقاصد حديث الحبيب لابن غازي ١٦٦ ـ وأبو زيد المذكور اختلف في اسمه على أقوال ذكرها السيوطي في الإتقان والصحيح منها أنه قيس بن السكن من عمومة أنس بن مالك. الإتقان ١/٧١-٧٢.

وإن المتدبر لتاريخ القراءة في المنطقة لهذا العهد في غرب الأندلس والجهات المسامتة له من الأندلس والمغرب، لا يخطئه أن يلاحظ هذا التكامل الذي تحقق في هذه المدرسة بين مختلف الاتجاهات فأصبحت بذلك تشكل في القراءة والأداء فنا متمايزا اصطلح المتأخرون على نعته باسم "الجمع الكبير"، وذلك في مقابل الاتجاه أو "المذهب الرسمي" الذي كان عليه السواد الأعظم، والذي يقوم على اختيارات المدرسة الأثرية كما رأيناها عند قطبها الكبير حافظ القراءات وقيدوم المدرسة المغربية الجامعة أبي عمرو الداني صاحب "التيسير".
ولقد استطاعت المدرسة التوفيقية في جنوب الأندلس أن تضطلع بنصيب عظيم في هذا الشأن وأن تخدم مسائل الخلاف الأدائية خدمات جلى أبرزت من خلالها اختيارات الأئمة الأربعة في صعيد واحد وقابلت بينها، وشكلت في القراءة نمطا جديدا من الدراسة المقارنة عن الأئمة، بالتأليف فيه ورسم معالمه وتيسير مسائله ونظمها على غرار ما فعله الشاطبي في نظمه لاختيارات المدرسة الأثرية.
ولقد برز من بين رجال هذه المدرسة في النصف الثاني من المائة السابعة إمام فذ تخرج على رجال المدرستين الأثرية والتوفيقية، وكان في مدينة غرناطة محور نشاط قرائي رفيع المستوى في أواخر عهد التلاقح بين مدارس الأقطاب، فاستطاع أن يقدم للمدرسة التوفيقية دعما جديدا توافر معه لأصحاب الهمم العالية مزيد من الحذق بمسائل الخلاف والإشراف عليها، بعد أن يكونوا قد تمكنوا من معرفة السائر والمشهور الذي تضمنته "الشاطبية"، فنظم في ذلك قصيدته التي جعلها تكملة لها لخص فيها أمهات المسائل الأدائية التي اختلف فيها كل من الأئمة الثلاثة : أبي على الأهوازي ومكي بن أبي طالب وأبي عبد الله بن شريح، مع الحافظ أبي عمرو الداني زعيم "المذهب الرسمي" في القراءة.


الصفحة التالية
Icon