والتحق بأبي في إمامة الإقراء بالمدينة شاب ذكي من قومه، وهو زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، وكان قد اشترك معه في كتابة الوحي بين يدي النبي ـ ﷺ ـ، فـ"كان إذا غاب أبي كتب له زيد"(١)، كما كان أيضا أحد الذين جمعوا القرآن على عهد النبي ـ ﷺ ـ من الأنصار بإجماع(٢)، ثم كان عليه الاعتماد في المشروع الكبير الذي جرى تنفيذه على مراحل، أعني جمع القرآن الكريم في المصحف في زمن أبي بكر، ثم إعادة إخراجه إلى الناس في نسخه الرسمية المتضمنة لما تواتر من حروف القراءات في زمن عثمان، وإرسالها إلى الأمصار الإسلامية الكبرى، ثم كان القائم بعد أبي على تلقين قراءة الجماعة، على وفاق المصحف المدني الإمام بقية عهد خلافة الراشدين وصدرا من دولة بني أمية.
ولقد رشحه للقيام بمثل هذه المأموريات عدد من المزايا أجملها أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في كلمة واحدة حينما أراد أن يعهد إليه بجمع القرآن، فقال له: " إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ـ ﷺ ـ"(٣). ، هذا إلى ما امتاز به من فقه راسخ وفهم ثاقب، وعلم بالفرائض والأحكام، كل ذلك كان يرشحه لمنصب "الأستاذية" في مدرسة المدينة مع أبي أو بعده حين يضعف عن القيام بذلك، ثم حين يلتحق بدار البقاء، وهو الذي "خلفه في الصلاة بالناس في تراويح رمضان، وكان أبي قد أقامه عمر لذلك إلى أن مات"(٤).

(١) - السيرة النبوية لابن كثير ٤/٦٦٩-٦٧٠.
(٢) - ينظر حديث أنس عن الأربعة الذين جمعوا القرآن في صحيح البخاري ٣/٢٢٨.
(٣) - المصدر نفسه ٣/٢٢٥.
(٤) - مسالك الدلالة في شرح الرسالة للشيخ أحمد بن الصديق ١١٦.

وقبل أن نورد جملة هذه القصيدة نقدم تعريفا كافيا بناظمها القيم على هذا الاتجاه في زمنه أبي الحسن القيجاطي رحمه الله. ونعقد لذلك الفصل التالي:
الفصل الأول:
أبو الحسن القيجاطي.
ترجمته :
هو علي بن عمر بن ابراهيم بن عبد الله الكناني أبو الحسن القيجاطي الأندلسي.
قال في الإحاطة :"أصله من بسطه، واستوطن غرناطة حتى عد من أهلها قراءة وإقراء ولزوما، ورد على غرناطة مستدعى عام ٧١٢هـ وقعد بمسجدها الأعظم يقرئ فنونا من العلم من قراءات وفقه وعربية وأدب، وولي الخطابة، وناب عن بعض القضاة بالحضرة... وهو أول أستاذ قرأت عليه القرءان والعربية والأدب إثر قراءة المكتب".(١)
وكان مولده عام ٦٥٠هـ، وعاش ثمانين سنة، وتوفي بغرناطة ضحى يوم السبت التاسع والعشرين من شهر ذي الحجة من عام ٧٣٠هـ، ودفن في عصر ذلك اليوم بعد بجبانة "باب ألبيرة"، وكان الحفل في جنازته عظيما، حضرها السلطان، واحتمل الطلبة نعشه".(٢)
ومن عجائب الأقدار أن هذه السنة قد شهدت أيضا وفاة أئمة ثلاثة من أعلام المدرسة المغربية في القراءات وهم القاسم بن يوسف التجيبي السبتي صاحب البرنامج الآنف الذكر، وأبو الحسن علي بن سليمان القرطبي شيخ الجماعة بفاس، وأبو الحسن بن بري صاحب الرجز المشهور في قراءة نافع، رحمهم الله أجمعين.
(١) - الإحاطة ٤/١٠٤-١٠٧.
(٢) - نفسه.


الصفحة التالية
Icon