فبهذا المشروع في صورته النهائية تم تجاوز هذه العقبة، واكتمل اجتماع الأمة على قراءة واحدة لم يعد معها مجال للاختلاف في شيء من آيات القرآن، وإنما بقي ما بقي من مظاهر الخلاف الجزئي ما قد يكون بين قارئ وآخر مما هو راجع في الغالب إلى اللهجة واللحن الخاص، مما تمشيه صحة الرواية، وينتظم في الإطار العام للأحرف السبعة التي أذن في القراءة بها. وذلك معناه التقاء قراءة أبي وزيد والجماعة في جامع مشترك ناظم لتلك الأنماط من الأداء في سلك واحد، يجسمه الخط المرسوم في مصحف الجماعة، الذي كتب عن قصد خاليا من علامات الإعجام والشكل، ليتأتى من خلال رسومه الماثلة احتواء القراءات المتواترة، وبذلك أمكن جمع القراء جميعا على مصحف واحد، مع احتفاظ كل قارئ بحروف قراءته التي قرأ بها مما هو منسجم مع مصحف الجماعة، وهذا هو التعليل الصحيح لما هو شائع من اجتماع الناس على حرف زيد بن ثابت، فإن اجتماعهم عليه لا يعني إلغاء ما جاء على قراءة أبي من الحروف مما يحتمله الرسم وتواتر نقله عنه، واكبر دليل على ذلك ما نجده من "أن أسانيد نافع وابن كثير وأبي عمرو بن العلاء من السبعة كلها راجعة إلى أبي، وقراءة ابن عامر راجعة إلى عثمان(١)، وباقي السبعة إلى علي وعثمان وابن مسعود وغيرهم، ومع هذا فإن الخلاف بينهم في أمور جزئية لا تمس الصورة الماثلة في المصحف، مما يدل على أن الحرف الذي ينسب إلى زيد هو حرف للجماعة في الوقت نفسه، بل هو الإطار الذي انتظم حروف الجماعة جميعا، فلا يبقى أي إشكال في نسبته إليه أو إلى الجماعة، وإن كانت نسبته إليه هي الشائعة قال الحافظ ابن عبد البر:
"والأخبار بذلك متواترة المعنى وإن اختلفت ألفاظها"(٢).
(٢) - الاستيعاب لابن عبد البر بهامش الإصابة ١/٥٣٢-٥٣٤ – والإصابة ١/٥٤٣.
وقال ابن الجزري في أستاذه المذكور :"إمام كبير ولد على رأس الستمائة، قرأ على عبد الله بن محمد الكواب، قرأ عليه الإمام أبو جعفر بن الزبير جمعا، وأخذ عنه "التيسير" والعربية، وقال : كان له في علم القراءات وإتقان التجويد قدم راسخ، إمام في ذلك لا يجارى فيه، مع حسن النية والورع، مات سنة ٦٧٠"(١).
وقد ورث أبو الحسن القيجاطي عن شيخه هذا مستواه العلمي الراسخ وتفننه في المعارف فكان "يقرئ فنونا من العلم" كما تقدم، وكان في زمانه أستاذ الجماعة بغرناطة وزعيم مدرستها، وعميد الاتجاه التوفيقي بها في زمنه الذي تبلور عنده هذا المنهج في أكمل صورة سواء في إنتاجه العلمي أم في الميدان العملي. كما ورث عنه أصحابه ورجال مدرسته هذا المنهج وساروا على آثاره فيه، إلى أن أصبح للمدرسة "القيجاطية" في عهد حفيده أبي عبد الله محمد بن محمد بن علي القيجاطي الصيت الذائع والمقام الرفيع، وانطلاقا من أصول المدرسة الأم ومنهاجها العام في القراءة والأخذ كما سوف نرى بعض ملامحه عند القيجاطي الحفيد في بعض ما أخذ به من مذاهب واختيارات.
آثاره العلمية :
ألف الإمام أبو الحسن القيجاطي في مجالات عديدة من قراءات وغيرها، كما يدل على ذلك قول ابن الخطيب :"وله تواليف في فنون وشعر ونثر"(٢)، وقول ابن القاضي في درة الحجال :"كان أديبا لوذعيا، وله تواليف في فنون"(٣). وذكره بمثل ذلك في "الديباج المذهب"(٤).
إلا أن هذه المؤلفات فيما أعلم لم يبق منها إلا بعض آثاره النظمية التي منها بعض قصائده التي ذكرها ابن الخطيب في "الإحاطة"(٥) و"الكتبية الكامنة"(٦). وأهم ما بقي لنا من آثاره في القراءات :
١- قصيدته اللامية المسماة بـ"التكملة المفيدة".
(٢) - الإحاطة ٤/١٠٤/١٠٧.
(٣) - درة الحجال ٣/٢٣٩ ترجمة ١٢٥٧.
(٤) - الديباج ٢٠٧.
(٥) - الإحاطة ٤/١٠٤-١٠٧..
(٦) - الكتيبة الكامنة ٣٨-٤٠..