وقد نبه مكي بن أبي طالب على خصوصية رواية حفص في تمثيلها للقراءة المدنية فقال في التبصرة متحدثا عن عاصم: "كان أضبط الناس لقراءة زيد بن ثابت، وكان قد قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن على علي بن أبي طالب، وقرأ على زيد، وقرأ زيد على النبي ـ ﷺ ـ"(١).
وقد استولت هذه الرواية التي يتحدث عنها، وهي رواية حفص ـ على الأمد الأقصى في الشهرة، وعليها جمهور الأمة اليوم، لا تنافسها في ذلك قراءة أخرى إلا قراءة نافع في الأقطار المغربية.
وقد استقطب زيد بن ثابت على العموم جمهور رواة العلم بالمدينة والوافدين عليها طوال أيام الراشدين واستأثر بالتفاف الناس عليه، والاقتداء به، ونشأت حوله في الفقه والقراءة مدرسة خاصة اشتملت على أقطاب العلم والرواية بالمدينة، فكانت مذاهبه وفتاويه واختياراته هي السائدة بها، قال على بن المديني(٢): "وأصحاب زيد بن ثابت الذين كانوا يأخذون عنه، ويفتون بفتواه، منهم من لقيه، ومنهم من لم يلقه، اثنا عشر رجلا: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار وأبان بن عثمان وعبيد الله بن عبد الله والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبو بكر بن عبد الرحمن وأبو سلمة بن عبد الرحمن وطلحة بن عبد الله بن عوف ونافع بن جبير بن مطعم".

(١) - التبصرة في القراءات لمكي بن أبي طالب ٤٢ (الطبعة الهندية).
(٢) - هو علي بن عبد الله بن جعفر السعدي المعروف بابن المديني (١٦١- ٢٣٤) من رفقاء أحمد بن حنبل في طلب العلم، دخل معه مكة واليمن والعراق. ترجمته في معرفة علوم الحديث للحاكم ٧١-٧٢.

تلك هي قصيدة أبي الحسن القيجاطي التي كمل بها قصيدة أبي القاسم الشاطبي فأتى فيها بمسائل الخلاف التي جمعها من كتب الأئمة أبي علي الأهوازي وأبي محمد مكي وأبي عبد الله بن شريح، إلا أنه فيما يبدو لم يستوعب عامة ما بين الثلاثة وبين أبي عمرو الداني من وجوه الخلاف، ولذلك تعقبه بعض شراح نظمه بقوله: "ترك الناظم كثيرا من الاختلافات الواقع بين الأئمة الثلاثة الذين زعم أنه يأتي به في نظمه(١).
ومع هذا الإعواز الذي ذكر في قصيدته فإنها قد اشتهرت في الأفاق واعتمدها الأئمة في المشرق والمغرب، وقد أسندها الحافظ ابن الجزري في النشر فقال :
"قرأتها على الشيخ الإمام الأديب النحوي المقرئ ابي جعفر أحمد بن يوسف بن مالك الرعيني في صفر سنة ٧٧١هـ، وحدثني ببعضها من لفظه القاضي الإمام العلامة أبو محمد إسماعيل بن هانئ المالكي الأندلسي في سنة ٧٦٩ ه قالا : قرأناها على ناظمها المذكور"(٢).
وتقل عنها في النشر أيضا الأبيات الثمانية المتعلقة بكيفية جمع القراءات، وقد ساقها ممزوجة بشرح القيجاطي لها لبيان مقاصده فيها، وناقشه في شروطه التي اشترطها للجمع وذكر أنها "ليست وافية بالقصد"(٣).
وأسندها الإمام أبو عبد الله بن غازي فقال في سياق مروياته عن شيخه أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم محمد بن يحي بن أحمد بن محمد النفزي الحميري الشهير بالسراج :"اخبرني بها عن أبيه عن جده عن أبي القاسم البرجي عن ناظمها سماعا"(٤).
الفصل الثالث:
أصحابه ورجال مدرسته.
(١) - وجدت هذا مكتوبا بخط دقيق على هامش الورقة الأخيرة من مخطوطة أوقاف آسفي من التكملة المفيدة، ولفظه: " قال شارحه : ترك الناظم كثيرا من الاختلاف... "
(٢) - النشر ١/٩٧.
(٣) - النشر ٢/٢٠٢-٢٠٤.
(٤) - فهرسة ابن غازي ٩٧.


الصفحة التالية
Icon