وقد افتتح عمر ولايته على المدينة بتكوين مجلس شورى من خيرة العلماء، وتعيين قارئ من صفوتهم قال أبو الزناد(١): "ولي عمر بن عبد العزيز المدينة في ربيع الأول سنة سبع وثمانين(٢)، وهو ابن خمس وعشرين سنة، ولاه إياها الوليد بن عبد الملك، فولى عمر قضاءها أبا بكر محمد(٣)بن عمرو بن حزم، ودعا عشرة من فقهاء البلدة منهم عروة والقاسم وسالم، فقال: إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، وتكونون فيه أعوانا على الحق"(٤).
وكان أولئك العشرة من أفاضل شيوخه "فجعلهم أهل مشورته، لا يقطع أمرا دونهم"(٥).
وهكذا كانت ولايته إيذانا بنهضة علمية وفقهية رفيعة في عامة أنحاء ولايته، ولاسيما في المسجد النبوي الذي زوده عمر بوقود جديد أذكى فيه الحركة العلمية، ونفخ فيها روحا قويا.
وكان لعمر بن عبد العزيز رحمه الله هوى خاص في أهل القرآن والمنتسبين إليه، عبر عنه بكل الوسائل في عهد ولايته، ثم في عهد خلافته، فمن ذلك أنه "كان لا يفرض العطاء إلا لمن قرأ القرآن"(٦).
وكتب إلى عامله على الصدقات يقول: "فأما الصدقات.. فأولى الناس بها من تفقه في الدين وقرأ القرآن(٧)وكانت لأهل القرآن في عهده التقدمة على من سواهم في كل أمر، لاسيما في الوظائف العامة، فقد جاء عن عبد الوهاب بن الورد قال: "بلغنا أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله: إياكم أن تستعملوا على شيء من أعمالنا إلا أهل القرآن"(٨).
(٢) - وذكر السيوطي انه وليها من سنة ٨٦ هـ إلى سنة ٩٣ ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي ٣٦٤.
(٣) - سماه وجعل أبا بكر كنية له، وذكر ابن حبان أن اسمه كنبته ومات سنة ١٢٠هـ - مشاهير علماء الأمصار ٧٦.
(٤) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ٤١.
(٥) - تاريخ ابن خلدون ٣/٦٠.
(٦) - كتاب القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس ٨٤.
(٧) - تاريخ المدينة المنورة لعمر بن شبة ١/٢١٦-٢١٧.
(٨) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز ١٢٠.
ـ ومن ذلك "كتاب الغريبين في الكتاب والسنة" لأبي عبيد أحمد بن أبي عبيد الهروي بسنده(١) ومؤلفات أخرى في الفقه وغيره مما نجده مبثوثا في فهرسة الإمام المنتوري.
وقد أدركه المنتوري نفسه وروى عنه بعض المصنفات بلا واسطة أذكر منها قصيدة الشاطبي "حرز الأماني" عرضها عليه وعلى جماعة ذكرهم من حفظه عن ظهر قلب(٢).
ـ وروى المنتوري عنه "كتاب الرعاية في تجويد القراءة" للشيخ أبي محمد مكي بن أبي طالب، وقال:
"قرأت بعضه على الأستاذ أبي سعيد فرج بن قاسم بن لب، وأجاز لي جميعه، وحدثني به عن الأستاذ أبي الحسن علي بن عمر القيجاطي عن القاضي أبي علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص عن الشيخ أبي القاسم محمد بن عامر بن فرقد القرشي عن القاضي أبي عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون عن الشيخ أبي محمد عبد الرحمن ابن عتاب عن المؤلف"(٣).
وقد أشرنا من قبل إلى المعركة النقدية الحامية التي دارت بينه وبين بعض أئمة زمنه من القراء والفقهاء حول موضوع "تواتر القراءات السبع"، إذ كان يذهب إلى تواترها، وكان معاصره أبو عبد الله بن عرفة الورغمي التونسي يذهب إلى أنها آحاد لأنها تنتهي في نظره جميعا في أسانيدها إلى أبي عمرو الداني.
وقد احتفظ لنا الإمام الونشريسي بنصي رسالتيهما في هذا الموضوع، وساق نص رسالة أبي سعيد بن لب على ما فيها من طول بما حشد فيها من الحجج الدامغة والشواهد القاطعة الدالة على تواترها قراءة وأداء، وسماها "فتح الباب ورفع الحجاب، بتعقب ما وقع في تواتر القراءات من السؤال والجواب"(٤).
(٢) - فهرسة المنتوري لوحة ٩.
(٣) - فهرسة المنتوري لوحة ٢٤.
(٤) - يمكن الرجوع إلى جواب ابن عرفة في المعيار المعرب ١٢/٦٨ـ٧٥ ورسالة أبي سعيد بن لب المذكورة بعده ابتداء من ص ٧٦ إلى ص ١٦٢.
وأشار في نيل الابتهاج ٢١٩ـ٢٢٠ إلى رسالة ابن لب بعنوان "الرد على ابن عرفة في مسألة القراءة بالشاذ في الصلاة". ـ وقد تقدم في العدد الأول ذكر حادثة غرناطة في موضوع "وجنات من أعناب" في الأنعام.