وكأن نافعا القارئ كان على موعد مع هذا المناخ العلمي الرفيع، لاسيما في امارة عمر بن عبد العزيز الذي وجه النداء في عهد ولايته إلى علماء المدينة، ثم عهد خلافته إلى كل مكان له عليه سلطان، فقد روى عكرمة بن عمار(١)قال: سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقول:
"أما بعد فأمر أهل العلم أن ينشروه في مساجدهم، فإن السنة قد أميتت"(٢).
وعن جعفر بن برقان(٣)قال: "كتب إلينا عمر بن عبد العزيز: أما بعد فأمر أهل الفقه والعلم من عندك فلينشروا ما علمهم الله في مجالسهم ومساجدهم والسلام"(٤).
ولم يكتف عمر بذلك، بل نجده يحدث لأهل العلم منحا خاصة ووظائف راتبة في مقابل التفرغ لنشره، فعن سعيد بن أبي مريم(٥)قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي حمص: انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المساجد عن طلب الدنيا، فأعط كل واحد منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين حين يأتيك كتابي هذا، وان خير الخير أعجله" ـ وفي رواية ـ "مر لأهل الصلاح من بيت المال بما يغنيهم، لئلا يشغلهم شيء عن تلاوة القرآن وما حملوا من الأحاديث"(٦).
(٢) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز ١١٣.
(٣) - من فقهاء الجزيرة وقرائهم من تابعي التابعين بالشام مات سنة ١٥٤. –مشاهير علماء الأمصار ١٨٥.
(٤) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ١/١٢٤.
(٥) - سعيد بن أبي مريم الجمحي المصري الحافظ سيأتي في الرواة عن نافع.
(٦) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز. ١٢٣. وكذا ١١٥.
ونظرا لأهمية ما ذكره في إعطائنا صورة عن المسلسل التعليمي الذي كان يمر به الطالب في تلقي هذه العلوم ليصل إلى مستوى التأهل والحصول على الإجازة في القراءة، وأهميته أيضا في تعريفنا بالنمط المتبع في تلقين القراءات السبع إفرادا وجمعا والطرق المعتمدة في ذلك، والكتب المستند إليها فيها، نسوق كلام المجاري مع اختصار الأسانيد التي لا تعلق لها بالقراءات. قال في برنامجه:
"ومنهم الشيخ الكبير العلامة أمام الأئمة في إقراء القرءان الأستاذ أبو عبد الله محمد بن محمد بن علي الكناني القيجاطي، قرأت عليه القرءان العظيم بالقراءات الثمان المتداولة المشهورة والروايات الست عشرة المسطورة، وبالإدغام الكبير لأبي عمرو بن العلاء في روايته المأثورة، في اثنتي عشرة ختمة: ختمة لورش عن نافع، ثم ختمة لقالون عنه. ثم ختمة جمعت فيها بين روايتي ورش وقالون: لورش بترك الإمالة في دوات الياء، ولقالون بضم ميم الجمع وقصر المنفصل، وختمة ختمة لكل إمام من الأئمة الستة الباقين من السبعة المشهورين جمعا بين روايتي راوييه، ثم ختمة لأبي محمد يعقوب بن إسحاق الحضرمي بالجمع كما ذكر، ثم ختمة جمعت فيها بين القراءات السبع، ثم ختمة بقراءة قالون من طريق أبي نشيط وقفت فيها على رؤوس الآي في حين القراءة، وذلك على عدد أهل المدينة الأخير، وكل ذلك عن طريق الإمام الحافظ أبي عمرو عثمان بن سعيد المقرئ الداني رضي الله عنه" (١).
وأخذت عنه حروف السبعة من طريق الإمام أبي محمد مكي، وطرق الإمام أبي عبد الله بن شريح، وطريق الإمام أبي علي الأهوازي، على ما تضمنه كتاب "الإقناع".
ولما أكملت هذه القراءات على حسب ماذكرت، سألت من شيخي وبركتي أبي عبد الله – رضي الله عنه أن يكتب لي كتابا يشتمل على ما قرأته عليه، وينطوي على صحة ما أسنده إليه، فأجابني إلى ما سألت.