وذلك أمر لا ينتهض به إلا أهل الهمم العالية من الصفوة الباقية، الذين هم في كل جيل، حلية أهل العصر. ونخبة النخبة في كل صقع ومصر، فهم السفرة الكرام في تحصيل هذه العلوم، والبررة المنتدبون لحفظها والذود عنها، والمعلمون القيمون عليها نشرا وتعليمًا، وتوجيها وتفهيما، وتقريبا وتيسيرا، لتستمر بذلك رسالة السلف في تربية الخلف، على ما فهمه وعلمه علماء هذا الشأن في هذه العلوم بمختلف شعبها وفروعها، من جريانها على التوقيف والأخذ، لا على الاجتهاد والرأي والاختراع وإعمال الفكر.
ولا فرق عندهم في ذلك بين المقروء والمرسوم، فكل ما بلغهم بطريق النقل المتوارث عند أهل هذا الشأن أخذوا به واعتمدوه، ووجهوه ونصروه، وحفظوه على وجهه، غير عادلين به عن سبيله، ولا ناكبين عن قبيله، نزولا على قول قائل، أو دعوة مأفون جاهل.
ولقد أحسن الإمام البغوي أبو محمد الحسين بن مسعود رحمه الله (ت ٥١٠هـ) في مقدمة كتابه في التفسير المسمى بمعالم التنزيل في الإشارة إلى هذا التلازم بين المباني والمعاني فيما تضمنه ما بين الدفتين من المصحف الشريف فقال: "والناس كما أنهم متعبدون باتباع أحكام القرآن وحفظ حدوده، فهم متعبدون بتلاوته على سنن خط المصحف الإمام، وأن لا يجاوزوا فيما يوافق الخط ما قرأ به القراء المعروفون الذين خلفوا الصحابة والتابعين واتفقت الأمة على اختيارهم"(١).
وبهذا يتبين أن الأمة كما أنها متعبدة بهذا القرآن علما وعملا، فهي متعبدة به أيضا حفظا ووعيا، وأداء وتجويدا، وبيانا وتفسيرا، "ولم تزل العلماء تستنبط من كل حرف يقرأ به قارئ معنى لا يوجد في قراءة الآخر، والقراءة حجة الفقهاء في الاستنباط، وحجتهم في الاهتداء"(٢).

(١) - معالم التنزيل للبغوي: ١/٣٧.
(٢) - إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر للشيخ أحمد بن محمد البنا الدمياطي ١/٦٧.

فالرجل كان ـ كما سوف نتعرف عليه ـ أحد النابغين من حفاظ الذكر الحكيم بقراءاته السبع المشهورة وأحد أعلام المدرسة القيروانية في قراءة نافع من روايتي ورش وقالون، ثم هو إلى جانب ذلك رائد كبير في مجال النظم التعليمي في قراءة نافع، إذ لا أعلم أحدا تقدمه إلى نظم أصول أدائها ومسائل الوفاق والخلاف فيها قبله، وإن شئت فقل، ولا بعده أيضا أحد نظم مثل ذلك فأجاد فيه إجادته، وأفاد بتلخيص قواعدها وتقريب شواردها إفادته.
وأترك للقارئ الكريم أن يقف بنفسه على مصداق ما نبهته إليه من خلال ما حاولت التنويه به في هذه الفصول مما يساعده على الوقوف على جلية الأمر فيه، وموضع الإنافة فيما حبره من نظم، وخاصة في رائيته العصماء التي قال عنها: "على كل خاقانية قبلها تزري".
والله سبحانه ولي العون على ما قصدناه، والتوفيق إلى ما توخيناه، وهو نعم المولى، ونعم النصير.
مقدمة:
الاتجاهات الفنية وامتداداتها في مدارس الأقطاب من خلال المدارس الأدائية الخاصة وقصائد النظم التعليمية في عهد الوحدة بين الأقطار المغربية.
رأى معنا القارئ الكريم من خلال الأبواب والفصول التي تناولنا فيها مدارس الأقطاب وامتداداتها في الحواضر والجهات، كيف بلغت المدرسة القرآنية في المغرب بصفة عامة وفي قراءة نافع بصفة خاصة، أوج ازدهارها وغاية كمالها، وكيف انبثقت عنها ابتداء من الربع الآخر من المائة الرابعة، مدارس أدائية وفنية متمايزة اصطلحنا على تسميتها بـ"مدارس الأقطاب" إشارة منا إلى ما توافر عند أصحابها من أعلام الأئمة في عهد التأصيل والنضج من نبوغ خاص في الفن، وتكامل في الشخصية العلمية، وسعة أفق في التعامل مع مذاهب الأئمة وتوجيه مسائل الخلاف وحذق خاص في إدارة مباحثها ومعرفة منازع أهل الأداء في اختياراتهم فيها، والتأليف، في أحكامها وقضاياها.


الصفحة التالية
Icon