ولذلك كان طلب هذه العلوم والتخصص في فروعها واجبا من الواجبات الكفائية على المسلمين، قال أبو محمد بن حزم في "رسالة التلخيص" متحدثا عن الواجبات الكفائية:
"ثم طلب علم القرآن واختلاف القراء السبعة فيه، وضبط قراءتهم كلهم، فرض على الكفاية، وفضل عظيم لمن طلبه إن كان في بلده كثير ممن يحكمه وأجر جزيل، قال عليه السلام: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، فكفى بهذا فضلا، وقد أمر - عليه السلام - بتعلم القرآن ممن تعلمه، فهو خير، ولو ضاع هذا الباب لذهب القرآن وضاع، وحرام على المسلمين تضييعه، وذهابه من أشراط الساعة، وكذلك ذهاب العلم"(١).
مقدمة البحث وموضوعه:

(١) - رسالة التلخيص لوجوه التخليص لأبي محمد علي بن حزم الأندلسي (مجموعة رسائل ابن حزم ٣/١٦١-١٦٢).

ورأينا مع القارئ الكريم أيضا من خلال ذلك كيف انصب هذا النشاط القرائي الرفيع وتبلور داخل ثلاثة أنماط في القراءة والأداء والتأليف تمثل ثلاث مدارس كبرى لكل منها طبيعتها ومنهجها وأصولها الفنية ومقوماتها الأدائية، وهي المدرسة التي اصطلحنا على وصفها بـ"القياسية" أو "التنظيرية"وتشمل أبا عبد الله بن سفيان ومكي بن أبي طالب وأبا العباس المهدوي وباقي الأقطاب تمام الستة من القيروانيين(١).
والمدرسة الاتباعية "الأثرية" ونعني بها مدرسة أبي عمرو الداني وامتداداتها في شرق الأندلس، ثم المدرسة "التوفيقية" التي جاءت في منهجها وسطا بين المدرستين، وهي مدرسة الإمام أبي عبد الله بن شريح وامتداداتها في غرب الأندلس.
ثم رأينا بعد كيف كان التنافس بينها في ساحة الإقراء بالغا مداه في عامة حواضر المغرب والأندلس، وكل منها تسعى إلى بسط مذاهبها في الأداء قراءة وإقراء وتأليفا وتوجيها، مما كان يفتح لطلبة هذا الشأن مجالات أفسح في فقه القراءة وتتبع مدارك الأئمة ومنازعهم في تلك المذاهب والاختيارات، كما كان يغذي الميدان بسيل لا ينقطع من المؤلفات رأينا طرفا مهما منه عند خلفاء الأئمة وأصحابهم والآخذين باتجاهاتهم.
(١) - أعني بتمام الستة أبا القاسم الهذلي وأبا علي بن بليمة وأبا القاسم بن الفحام.


الصفحة التالية
Icon