ثم أما بعد فهذا جهد متواضع مني أردت به الإسهام بنصيب في خدمة هذا الكتاب والتأريخ لقراءته ورجاله ومدارسه في هذه الجهات من ديار العروبة والإسلام، بذلت فيه غاية وسعي، وصرفت في إعداده وإنجازه طرفا من عمري، الملم من أشتات مادته ما تناثر في الخزائن، وأؤلف من تفاريق مباحثه ما تبعثر في الأوراق والمصنفات، جعلته لقراءة نافع ومدارسها الفنية في هذه الديار بمنزلة الدليل، لعل القارئ الكريم يجد فيه ما يتعلل به منه ولو بالقليل، إن لم يصل إلى شفاء الغليل، وتتبعتها في مسارها غداة دخولها برواياتها وخاصة منها تلك الرواية التي ارتضع المغاربة أخلافها فدرت عليهم بأزكى اللبان، ووردوا مناهلها في أرض الكنانة فانبجست لهم منها أعاذب العيون وأطايب الخلجان، أعني رواية الإمام أبي سعيد ورش عميد المدرسة النافعية في بلاد مصر. فتتبعت مسارها في سراها نحو الديار المغربية في ركاب أهل الرحلة من طلابها، أتنقل معهم عبر القرون من عصر إلى عصر، وعبر الآفاق أتجشم معهم عناء السفر من قطر إلى قطر، أتوقل الأوعار حينا مع من توقلها، واعتسف المجاهل آنا آخر مع من اعتسفها، ولربما عدت مع العائدين حافل العيبة بعد طول الغيبة، مملوء الوطاب، وربما انقلبت خاوي الوفاض راضيا من الغنيمة بالإياب.
وإني لا أريد أن أمن هنا على القارئ الكريم إذا شكوت إليه بثي، وناجيته بما عانيت في إعداد هذا البحث وكتابته، فإني صرفت في ذلك أعواما عديدة أجافي جنبي طويلا عن مضجعه، وقد هجعت النفوس ونامت العيون، فأبقى إلى الهزيع الأخير من الليل، أسامر السراج وأنادم الكتاب، أرجع البصر في سفر عتيق، أو أفحص في المظان عن قارئ مغمور، أو أنقب عن أصل من أصول الأداء، أو أنقر عن ترجمة أخذتني من جرائها البرحاء.
ونريد الآن في الحلقة التالية أن نقف مع إحدى واجهات ثلاث تبلور من خلالها أهم مظاهر هذا النشاط التأليفي والعلمي في تلك المدارس الفنية الثلاث، لدى ثلاثة من الأئمة يعتبرون من خيار هذا الرعيل إمامة في مذاهب الأقطاب، وحذقا في فقه منازعهم فيها، وقياما تاما عليها، إلى ما تأتى لهم من الحذق والتبريز في ملكة "النظم التعليمي" الذي اتخذوه مطية ذلولا لنقل أصول الأئمة في القراءة واختياراتهم في الأداء وأبدعوا فيه قصائد عصماء سائرة كانت منذ ظهورها وما تزال أمثلة عالية في ذلك تجمع بين استيعاب المادة وبين حسن التلخيص والتقديم لها، وجمال الصياغة والحذق فيها، وإخراجها في حلل قشيبة زادت في تحبيبها وتقريبها من القراء لما للنفوس من تعلق زائد بالشعر وما نظم في قوالبه(١).
ولقد كان لأهل هذا الشأن من التعلق المكين بهذه القصائد ـ كما سوف نرى ـ والتشبث بمذاهب الأقطاب فيها ما كاد ينسي أصولها التي اغترفت منها ـ أعني كتب الأئمة ـ إن لم يكن قد غطى عليها أو أغنى عند جمهور الأئمة عنها حتى كادت تنسى، ثم زاد في رجحان قدرها إقدام عدد كبير من الأئمة في كل عصر منذ ظهورها إلى الآن على وضع شروح وإضافات وحواش تبين مقاصدها وتصلها بأصولها، معيدين بتلك الشروح والأوضاع حل ما أبرم ناظموها وتفننوا في ذلك، وزاد عكوفهم على بعضها إلى الحد الذي خرجت معه عن أن تكون لغير معصوم(٢).

(١) - عبر عن ذلك الحصري في أول قصيدته التالية.
(٢) - ذكره ابن الجزري عن الشاطبية كما سيأتي.


الصفحة التالية
Icon