ولربما بكرت بعدها إلى مثل ذلك بكور الغراب، فأصبحت وأمسيت في بيتي لأيام معدودات "رهين المحبسين": الكتابة والكتاب، يمر بي الشهر الكامل لا أميز بين أعجازه وهواديه(١)والأسبوع الحافل لا أفرق بين مفاريده ومثانيه، تستبد بي فكرة لاحت، أو تسنح لي فائدة سنحت وأسعفت بعد أن اعتاصت علي زمانا وامتنعت، فتتملكني نشوة الظفر، تملك من أحرز قصب السبق وقضى اللبانة وأدرك الوطر.
وقديما قالها إمام أهل البصرة في القراءة ورواية اللغة وآدابها أبو عمرو بن العلاء، وكان يومئذ هاربا مع أبيه من أمير العراق الحجاج بن يوسف الثقفي، فلما كانا ببعض الطريق خرج فسمع منشدا بنشد:
"ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال"
قال: وسمعت عجوزا تقول: مات الحجاج، قال: فما أدري بأيهما كنت أسر؟ بقول المنشد "فرجة" بالفتح، أو بقول العجوز: "مات الحجاج" !(٢).
لقد حببت إلي في ذلك المعاناة، فكنت أكابد في عنت البحث رهقا جميلا، وأصابر من ألقاهم من أهل القراءة وحفظة الخزائن طويلا طويلا، فربما لاقيت بلا سابق معرفة أخا كريما أو ابن أخ كريم، وربما جمعتني الصدفة بآخر "مناع للخير معتد أثيم"، حتى ظنني بعضهم أتعاطى كتابة الحروز، واعتقدت امرأة أرسلت إليها أريد أن تطلعني على خزانة زوجها المتوفى، أني أبحث عن تقاييد الدفائن وأحترف استخراج الكنوز، فقلت في نفسي كما قال القائل:

راحت مشرقة ورحت معربا شتان بين مشرق ومغرب
(١) - أي أوائله وأواخره.
(٢) - ينظر الخبر في إنباه الرواة على أنباه النحاة لأبي الحسن الفقطي ٤/١٣٤-١٣٥ وجمال القراء وكمال الإقراء لأبي الحسن السخاوي ٢/٤٥٣.

وسوف نرى من خلال قصيدة الإمام أبي الحسن الحصري الذي أفردنا له هذه الحلقة في هذه السلسلة مستوى بديعا من الحذق والنبوغ سواء في التمكن من الفن ورسوخ القدم فيه، أم في القدرة على تقديمه إلى القراء والطلاب في حلة جميلة بديعة من النظم الذي من شأنه أن تتعلق به النفوس، وأن يعين طالب القراءة وقواعد التجويد على استيعاب القواعد وضبط أصول الأداء وحفظ أدلتها والقدرة على استحضارها عند الحاجة والاستدلال.
والله عز وجل يعين على بلوغ الأمل، والمسؤول أن يجود بحسن القبول والتوفيق إلى خلوص القصد والنية والعمل.
وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الفصل الأول :
معالم الاتجاه القيرواني في الأداء في الأندلس والمغرب من خلال مدرسة الإمام الحصري وقصيدته الرائية في قراءة نافع.
رأينا فيما قدمنا كيف تأسست المدرسة القيروانية في قراءة نافع بأفريقية، وكيف تألقت فيها مدرسة رائدها أبي عبد الله بن خيرون، ثم رأينا كيف تفرعت إلى اتجاهات عديدة تتفق فيما بينها في الخصائص العامة للمدرسة "الأم"، ويستقل بعد ذلك كل إمام فيها بطائفة من الاختيارات الأدائية التي تعزى إليه كما وقفنا على أمثلة ذلك في كتب الأقطاب القيروانيين، الستة ابتداء من صاحب "الهادي أبي عبد الله محمد بن سفيان، وانتهاء إلى أبي القاسم بن الفحام من أصحاب المصنفات الأمهات في القراءة والأداء.
ولقد رأينا كيف اتسعت آفاق هذه المدرسة فيما بعد حتى عمت أفريقية والأندلس والمغرب عن طريق هجرة طائفة من أئمتها من المنطقة إلى الأندلس، ثم تجاوزت ذلك فيما بعد في اتجاه أقطار المشرق فبلغ بها أبو القاسم الهذلي ـ صاحب الكامل في القراءات ـ أقصى ما بلغه قارئ في طلب هذا الشأن على الإطلاق، وتوقف بها كل من أبي علي بن بليمة ـ صاحب تلخيص العبارات ـ وأبي القاسم بن الفحام ـ صاحب التجريد ـ على بوابة المشرق: مدينة الاسكندرية بمصر فظلا يرسخان أصول هذه المدرسة، ويمكنان لها في هذه الجهات.


الصفحة التالية
Icon