ومع هذا كنت أحتسب مثل هذا العنت احتسابا، وأطرق المظان أسمع عنها بابا بابا، وخاصة بيوت المعروفين في جهتنا في الجنوب المغربي من بقايا القراء الذين كنت آنس عندهم بغيتي، وأتوقع الدلالة على طلبتي، فكان فيهم الغث والسمين، والأصيل والهجين، ومع ذلك ما من رحلة شددتها بحمد الله إلا عدت منها بشيء قل أو كثر، حتى أصبت بطول الصبر والمطاولة ما لم يكن يدور لي بالحسبان في السنوات الأول، ووصلت يدي إلى كنوز، لم تدرك قيمتها تلك العجوز، منها ما وقفت عليه في الخزائن العامة، ومنها ما وقفت عليه في الخزائن الخاصة، ومنها ما وصل إلي مصورا عن نسخه الخطية بالمشرق، ومنها ما وصل إلي مطبوعا قبل أن تعرف نسخه المطبوعة حتى الآن في التداول.
ولقد طالما أعياني في السنوات الأولى لنحو ثمانية أعوام أن أقف على جامع البيان لأبي عمرو الداني أو كتاب "التحديد" له، أو "الموضح"، أو على "تبصره" مكي و"هادي" ابن سفيان و"كامل الهذلي" وتلخيص أبي علي بن بليمة"، و"تجريد ابن الفحام"، و"عنوان" أبي الطاهر بن خلف، و"مفتاح" ابن عبد الوهاب و"كافي" ابن شريح، و"إقناع" ابن الباذش، و"تكملة القيجاطي" و"أرجوزة الهوزني" في المخارج والصفات و"بارع" ابن آجروم في قراءة نافع، و"نافع" الجادري فيها و"مختصر ابن جزي" في ذلك وسواها كثير، فما لبثت أن سيقت إلي بعون الله جميعا حتى قضيت منها الوطر، وعرفت بها وأفدت منها، وأثبت نصوص بعضها بتمامها إنقاذا لها من الضياع، وخاصة منها ما لا أعلم لنسخه وجودا في الخزائن كالهوزنية المذكورة والبارع والنافع وعمدة البيان المسماة أيضا بـ"الخراز القديم"، و"تبصرة الاخوان في مقرأ الاصبهان" وغيرها كثير مما أثبته بنصه في هذه الدراسة أو عرضت قسما منه للتعريف به.
وبذلك بلغ المذهب القيرواني في القراءة لهذا العهد على أيدي هؤلاء الرواد أقصى ما أمكن لمذهب في الأداء ـ وخصوصا في رواية ورش عن نافع من طريق الأزرق ـ أن يبلغه من الشهرة والذيوع والانتشار.
ولقد مر بنا ذكر الانتكاسة التي تعرضت لها هذه المدرسة الفنية في عقر دارها بالقيروان نتيجة الغزو الهمجي الذي تعرضت له من لدن عرب سليم وهلال في منتصف المائة الخامسة، هذا الغزو الذي قضى على المجد الباذخ لهذه المدينة، وأباد خضراءها، وطوح بمن قدر له البقاء في كل اتجاه.
وكان بدء ذلك لما قطع المعز بن باديس الصنهاجي الدعوة للعبيديين الذين كانوا يعتبرونه نائبا عنهم في إدارة البلاد بعد أن حولوا قاعدة الملك من أفريقية إلى القاهرة، "وبايع القائم أبا جعفر بن القادر من خلفاء بني العباس سنة ٤٣٧، وبعث بالبيعة إلى بغداد وقلده الخليفة من قبله، وقرئ كتابه بجامع القيروان، وانتشرت الرايات السود، وهدمت دور الإسماعيلية، وبلغ الخبر إلى المستنصر ـ العبيدي ـ فأرسل عرب بني هلال على أفريقية، تأديبيا للمعتز وانتقاما منه، وكان في نص الإنذار الذي بعث به إلى المعز على لسان وزير المستنصر أبي محمد الحسن بن علي الباروزي:
"أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا، وأرسلنا عليها رجالا كهولا، ليقضي الله أمرا كان مفعولا"(١).
وهكذا وصل الزحف الهلالي الرهيب إلى أفريقية سنة ٤٤٣، فهزموا المعز الصنهاجي وحاصروه في قاعدة ملكه، وفر أهل القيروان إلى تونس، "واقتسمت الحرب الهلالية بلاد أفريقية سنة ٤٤٦ وخربوا القيروان"(٢).

(١) - تاريخ ابن خلدون ٦/١٤ـ١٦.
(٢) - المصدر نفسه ١٦.


الصفحة التالية
Icon