ومن خلال ما تقدم يمكن أن ندرك أهمية أبي جعفر في المدرسة المدنية على العموم، وفي مشيخة نافع على الخصوص، ونشير بصفة خاصة فيما يفيدنا في دراستنا لقراءة نافع من خلال أبي جعفر إلى العناصر التالية:
١- أنه يسند قراءته من طريق أبي هريرة وابن عباس وابن عياش من قراءة الثلاثة على أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد لا غاية وراءه في القوة والصحة والثبوت، وهو أوثق أسانيد نافع من طرق شيوخه الخمسة جميعا.
٢- أنه أول ممثل رسمي للقراءة المدنية الموافقة لخط المصحف الإمام، وذلك هو المراد بقولهم: "لم يكن أحد أقرا للسنة منه"(١).
٣- أنه أقدم أستاذ لنافع في القراءة، وقد قدمنا قوله: "كنت أقرأ عليه، وأنا ابن تسع، ولي ضفيرتان"(٢).
٤- أن نافعا يعتبر بالنسبة إليه بمنزلة قالون وورش بالنسبة لنافع، بل ان ابن الجزري يذكر في ترجمة قالون أنه "أخذ القراءة عرضا عن نافع، قراءة نافع وقراءة أبي جعفر"(٣).
وقال في منجد المقرئين: "أما أبو جعفر يزيد بن القعقاع فروى عنه قراءته أحد القراء السبعة، وهو نافع بن عبد الرحمن، وأقرأ بها القرآن، ورواها عنه جماعة منهم قالون"(٤).
وقد قرأ الأندرابي بقراءة أبي جعفر من طرق عديدة، ومنها طريق العمري ـ وهو أبو عبد الرحمن الزبير ابن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ، ويعرف بسمنة، وقرأ سمنة على قالون، وقرأ قالون على نافع وعيسى بن وردان، وهما قرآ على أبي جعفر"(٥).
فهكذا كان نافع من أهم الطرق المشهورة في قراءة أبي جعفر.

(١) - قراءات القراء المعروفين ٤٧.
(٢) - كنز المعاني للجعبري (مخطوط).
(٣) - غاية النهاية ١/٦١٥ ترجمة ٢٥٠٧.
(٤) - منجد المقرئين ٢٨. وقد أسندها أبو القاسم الهذلي في الكامل من طريق قالون عن نافع.
(٥) - قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين ٤٣.

يستطيع القارئ الكريم أن يتلمس بجلاء مظاهر أمامة أبي عبد الله القيجاطي في الموضوعات الخاصة التي تناولها بالبحث والتي تتعلق غالبا بأصول الأداء وتحقيق مخارج الحروف والصفات، وفي المباحث الأخرى التي تناولها حول تواتر القراءات. إلا أن إمامته العالية إنما تتمثل بصفة خاصة في المستوى الرفيع الذي نجده يتعامل به مع مسائل الفن ومذاهب الأئمة.
لقد كان القيجاطي الحفيد من فرسان هذه الحلبة في زمنه، وكان خاتمة هذا الرعيل الذي تحمل تراث الأئمة تحملا واعيا واستفاد منه استفادة جلى، ثم قام ببناء مذاهبه واختياراته عليه.
وهو وإن كان ينطلق من مبادئ مدرسته في اعتماد اختيارات الأئمة وقبول مختلف الوجوه الثابتة في القراءة، فإنه في الوقت ذاته لم يكن أسيرا لمذاهب أئمته وتوجيهاتهم، وإنما كان يناقش القضايا ويوازن بين االمذاهب ويستنطق النصوص، فيناقش المستدلين بها فيما أخطئوا في حملها عليه أو تأولوه منها على غير وجهه، مهما تكن جلالة صاحب القول أو التوجيه أو المذهب، ومن هنا نجده يناقش كثيرا أبا عمرو الداني أو أبا محمد مكي بن أبي طالب أو ابن شريح أو صاحب الإقناع أبا جعفر بن الباذش أو غيرهم ولا يبالي بما وقر في النفوس من قبول أقوالهم والتعويل على توجيهاتهم واختياراتهم، ولكن ذلك لا يمنعه أيضا من الاستناد إلى نقولهم وما ضمنوه كتبهم في القضايا التي يتناولها بالبحث، شأن العالم المنصف الذي يدور مع ما يراه صوابا وما يعتقده حقا حيثما كان.
على أننا نجده من حين لآخر ينفرد ببعض الآراء والتوجيهات ويدافع عنها، ثم لا تمنعه مخالفة المخالف له من الأئمة من الثبات على رأيه والمنافحة عنه، سواء كان مسبوقا بما ذهب إليه، أم كان مذهبه جديدا مما وصل إليه ببحثه واجتهاده.


الصفحة التالية
Icon