وقبل أن نمضي قدما في الحديث عن مظاهر هذا النشاط، وكيف تبلور في مدارس القراءات من خلال جهود أولئك الأئمة وآثارهم في القراءة على العموم وفي قراءة نافع على الخصوص، تقتضي منا طبيعة البحث الإلمام بأولى الخطوات التي خطتها المسيرة القرآنية في الغرب الإسلامي، واستجلاء معالم الطريق الذي عبرت منه طلائع القراءات في رحلة العبور إلى هذه الديار، وذلك من خلال الفصول الأربعة التالية
الفصل الأول:
المدرسة القرآنية في الغرب الإسلامي
ومؤسساتها ومقوماتها التعليمية
يرتبط تاريخ المدرسة القرآنية في الأقطار المغربية بتاريخ دخول الإسلام وانتشاره بها ذلك لأن الفتح الإسلامي إنما هو في حقيقته تمهيد للبلاد وإزالة للعوائق التي تحول دون بلوغ دعوة القرآن إلى العباد، وتحقيقا لهذه الغاية، كانت الدعوة إلى كتاب الله شعار الفاتحين من الصحابة والتابعين، والتعليمات النبوية والتوجيهات الرسمية التي كانت توجه إلى قادة الفتح وإلى الدعاة على حد سواء كانت كلها تلتقي على الدعوة إلى كتاب الله والعمل به، وتأمر بالمسارعة إلى تقديمه للناس بعد تحقق الاستجابة لدعوته والإذعان له، وهكذا نقرأ في السيرة أن النبي ﷺ "لما بعث خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران، أمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثا قبل أن يقاتلهم، فإن استجابوا فليقبل منهم، وإن لم يفعلوا فليقاتلهم، فخرج حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا، فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه ـ ﷺ ـ، وبذلك أمره رسول الله ﷺ ـ ان هم أسلموا ولم يقاتلوا"(١).

(١) - الروض الأنف للإمام السهيلي ٤/٢١٧.

هؤلاء هم أصحابه الذين وقفت على ذكرهم بالرواية عنه، وأكثرهم ممن روى عنه القراءة أو سمع منه وأجازه بقصيدته "الحصرية" في قراءة نافع. ولا يخفى أن هذا العدد لا يمثل الحقيقية كاملة، وإنما يعطينا فحسب صورة تقريبية عن هذا الجانب من شخصيته المتعددة الجوانب، كما يبين لنا مقدار حرص طلاب العلم في زمنه على الأخذ عنه، وكيف شغفوا برواية قصيدته الفذة مع اختلاف آفاقهم وتنوع مواضع لقائهم له.
ولعلنا قد أعطينا للقارئ الكريم من خلال هذه التراجم إطلالة على جانب من النشاط القرائي الذي قاده هذا الإمام في هذه الجهة من شمال العدوة المغربية حتى عده من عده من خلالها "مقرئ المغرب"(١).
ونريد أن نصحبه الآن في بعض آثاره في القراءة لنرى كيف استطاع أن يكون في زمنه زعيم المذهب الأصولي القيرواني في الأداء، وكيف حمل رايته عالية في هذا العصر الذي كانت فيه مدارس الأقطاب في الأندلس في أوج قوتها ونشاطها العلمي، ولاسيما منها مدرسة أبي عمرو الداني في شرق الأندلس ومدرسة أبي عبد الله بن شريح في غربها، فكان ظهور أبي الحسن في هذه الجهات بعثا جديدا للحيوية والنشاط في هذا الاتجاه، و"توظيفا رسميا" له في ميدان الإقراء بإعطائه نفحة شعرية رفيعة المستوى مكنته من منافسة باقي الاتجاهات التي تمثل اختيارات المدارس الأخرى، فكان عمله آخر اللبنات في الهيكل الفني لهذه المدرسة ومسك الختام لمدرسة أبي عبد الله بن سفيان في هذه الجهات.
الفصل الثاني:
آثاره في القراءات ومذهبه الفني في الأداء من خلالها.
(١) - "الحركة العلمية في سبتة خلال القرن السابع " لإسماعيل الخطيب ١١٢.


الصفحة التالية
Icon