وفي السيرة أيضا نقرأ أنه لما بعث رسول الله ـ ﷺ ـ عمرو بن حزم إلى اليمن داعيا زوده بهذا الكتاب المتضمن لبيان مهمته:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا بيان من الله ورسوله، يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود، من محمد رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله، وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن، ويفقههم في الدين، وينهى الناس فلا يمس أحد القرآن إلا وهو طاهر"(١).
وهكذا كانت سيوف الفتح محكومة بدعوة القرآن وتعاليم النبوة، وليست متروكة للأهواء فكان "قوام الدين بالمصحف والسيف"(٢)، جريا على السنن القويم والمنهاج المستقيم الذي رسمه رسول الله ـ ﷺ ـ للجهاد فيما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله ـ ﷺ ـ أن نضرب بهذا ـ يعني السيف ـ من عدل عن هذا ـ يعني المصحف ـ"(٣).
ولا يخفى ما كان لهذه السيرة من أثر في نشر الإسلام وعموم دعوة القرآن وتقبل الكافة لها تقبلا سريعا، وبذلك "انتشر الإسلام في أرض العرب كلها، وتعدى إلى الممالك المصاقبة لهم كممالك الروم والعجم والقبط والحبش وغيرهم من ممالك الأطراف"(٤).
وهكذا كان القرآن الكريم يسير حيثما سارت راية الفتح والجهاد، وسرعان ما كان يقبل أهل البلاد المفتوحة على تعلمه والتفقه في أحكامه، وكان الخلفاء وأولياء الأمور يجعلون العناية بتعليم كتاب الله رأس ما يهتمون به في الأقاليم المفتوحة عقب فتحها، كما تشهد بذلك التعليمات الرسمية.

(١) - الروض الأنف ٢١٨ والسيرة النبوية للحافظ ابن كثير ٤/١١٧.
(٢) - السياسة الشرعية لأبي العباس بن تيمية ٢٦.
(٣) - المصدر نفسه ص ٢٦.
(٤) - إعجاز القرآن للباقلاني بهامش الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ١/٢٠.

خلف أبو الحسن الحصري في المجال الأدبي آثارا كثيرة شهيرة لقيت من عناية المؤرخين والادباء ما جعل أكثر من يعرفونه انما عرفوه من خلالها، ومنها بعض قصائده السائرة(١) وديوان شعره(٢) و"المعشرات"(٣) و"اقتراح القريح واجتراح الجريح"(٤) و"المستحسن من الأشعار"(٥).
أما آثاره في مجال علوم القراءة فقلت العناية بها إلا عند أهل هذا الاختصاص قديما، ولم تعره الدراسات الحديثة حسب علمي في هذا الجانب من نشاطه ما يستحقه من اهتمام وتقدير حتى الآن.
وسأحاول في هذا الفصل أن أقدمه إلى القراء من خلال هذا الجانب الذي لا يقل إبداعه فيه عن الجانب الأدبي إن لم يزد عليه، وذلك بالتعريف الكافي بأهم آثاره الباقية في القراءة مما يمثل اتجاه مدرسته ويرسم المعالم الفنية التي تكون النسيج المتلاحم للطراز القيرواني المغربي في أصول القراءة والأداء كما استقر عليه الأخذ عند فحول القراء وأئمة الإقراء بافريقية والقيروان في عهد التأصيل والنضج من المائة الخامسة.
كما سنحاول من خلال هذه الآثار أن نتتبع ما كان لها من إشعاع وما قاده من نشاط علمي كانت المحرك له والباعث عليه في عهود متلاحقة طويلة جعلت أئمة هذا الشأن يلفتون إليها، ويهتمون بمناقشته فيها، حتى قل من المؤلفين امام ألف في قراءة نافع منذ زمن الحصري لم ينبه على بعض مذاهبه أو يشر إلى آثاره. وهذه نبذ من التعريف بهذه الآثار وما قام حولها من نشاط علمي.
١-
(١) - ومنها قصيدته الدالية المشهورة التي عارضه فيها كثير من الشعراء: "يا ليل الصب متى غده".
(٢) - ذكر الزركلي في الأعلام أن بعضه ما يزال مخطوطا إلى اليوم ـ الأعلام ٥/١١٤ـ١٥.
(٣) - ما تزال مخطوطة في بعض الخزائن ـ الأعلام ١١٤ـ١١٥.
(٤) - وهو ديوان شعري في رثاء بعض ولده ـ إيضاح المكنون ١/١١٠ والاعلام للزركلي ٥/١١٤ـ١١٥
(٥) - نفح الطيب ٥/٣٧٩.


الصفحة التالية
Icon