وفي هذا الخبر دلالة على أنه استفاد منه في رواية الحروف، وأما في رواية الحديث فقد روى عنه الكثير، وكان حريا أن يكون من خيرة الرواة عنه لو تفرغ لذلك، وقد ساق ابن سعد وغيره جملة من الآثار تدلنا على الصلة الوثيقة التي كانت لنافع به في هذا المجال، قال ابن سعد: "أخبرنا محمد بن عمر(١)قال: حدثني نافع بن أبي نعيم، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وأبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي فروة قالوا: كان كتاب نافع الذي سمع من عبد الله بن عمر في صحيفة، فكنا نقرؤها عليه، فنقول: يا أبا عبد الله، انا قد قرأنا عليك، فنقول: حدثنا نافع ؟ فقال: نعم"(٢).
وقد جاء عن نافع القارئ عند ابن سعد بيان السبب الذي جعل نافعا مولى ابن عمر يكتفي بقراءة بعض أصحابه عليه من صحيفته، وذلك لعجمة لسانه المترتبة عن أصله الفارسي، قال ابن سعد:
"أخبرنا محمد بن عمر قال: سمعت نافع بن أبي نعيم يقول: إذا أخبرك أحد أن أحدا من أهل الدنيا قرأ عليه نافع، فلا تصدقه، كان ألحن من ذلك"(٣).
وقد وقفت على جملة من الأحاديث والآثار رواها نافع بن أبي نعيم عنه، منها ما أخرجه الإمام إسماعيل ابن إسحاق القاضي قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة(٤)قال: حدثنا نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ عن نافع عن ابن عمر أنه "يكبر على الجنازة، ويصلي على النبي ـ ﷺ ـ ثم يقول: اللهم بارك فيه، واغفر له، وأورده حوض نبيك صلى الله عليه وسلم"(٥).

(١) - هو الواقدي.
(٢) - الطبقات الكبرى – القسم المتمم لتابعي أهل المدينة ١٤٣.
(٣) - المصدر نفسه ١٤٣.
(٤) - هو القعنبي وسيأتي في الرواة عنه.
(٥) - كتاب فضل الصلاة لاسماعيل بن إسحاق ٧٩ وقد ضعف ابن القيم الحديث في كتابة "جلاء الأفهام" ٢٦٤.

وقد حاولنا فيما جمعناه ورتبناه إبراز مظاهر الحذق والنبوغ ومقومات الإمامة في الفن والريادة فيه عند هذين الإمامين الجليلين. كما قمنا بتقديم وتحقيق أثر نفيس يعتبر أول نتاج محلي ومغربي أصيل أسهمت به المدرسة المغربية الناشئة في تأهيل القراءة الرسمية في مدينة فاس ثم في سائر الحواضر المغربية التابعة لها يومئذ. وأعني به أرجوزة الإمام الكبير والنحوي اللغوي الخطير الشيخ أبي عبد الله بن آجروم الصنهاجي المعروفة باسم "البارع في قراءة الإمام نافع"، وهي أرجوزة ظلت منذ زمن طويل في حكم المفقودة لا يعلم بوجودها إلا قليل بل أقل القليل، حتى هدى الله عز وجل إلى الوقوف عليها كما سيأتي في نسخة فريدة لا تحمل معها ما يدل على منشئها دلالة كافية تقود إلى المقصود.
ولعلي من خلال ما أقدمه في هذا البحث عن هانين الشخصيتين أكون قد أسهمت في بناء ترجمة موسعة لقارئين جليلين أحدهما وهو الشيخ أبو عبد الله بن القصاب الذي لم يترجم له أحد من أهل التراجم فيما أعلم ممن اهتموا رجالات العلم بمدينة فاس على وفرة الاهتمام برجالاتها، والثاني وهو ممن انصرف أهل العلم في الترجمة له إلى الجانب الذي طغى على شخصيته، وهو علم النحو لارتباط اسمه محليا وعربيا ثم عالميا باسم المقدمة "الآجرومية" المشهورة التي اخذ علم النحو في لغات الغرب اسمه المعروف من اسمها المأخوذ من نسب مؤلفها.
أسأل الله العلي القدير أن يكتب لنا في الباقيات الصالحات ما بذلناه في هذه السلسلة من جهد، وأن ينفع بما جمعناه واستفرغنا غاية الوسع فيه، خدمة لكتاب الله والمشتغلين بالبحث في مدارسه ومباحثه والتعريف بأئمته، وقياما ببعض الواجب في ذلك والله سبحانه ولي التوفيق.
مدرسة أبي عبد الله القصاب:
صاحب تقريب المنافع في قراءة نافع
تمهيد:


الصفحة التالية
Icon