والآن وقد استكمل نافع دراسته وقراءته على الأكابر من شيوخ المدينة، وحصل هذا الرصيد الزاخر من الروايات، لم يبق إلا أن يأخذ مكانه بين علية المتصدرين من المشايخ، بالجلوس للناس لتلقين القراءة للواردين على الحرم النبوي، ولأبناء دار الهجرة الناشئين، الراغبين في الحصول على أجلى صورة لقراءة الجماعة، كما تلقاها نافع عن أكابر شيوخه السبعين من التابعين، يحدوه إلى ذلك طلب الأجر والمثوبة الحسنة، والرغبة في منافسة الأقران، وحماسة الشاب النشيط الطامح ببصره إلى مراكز المشايخ، وشهادة الأئمة المعتبرين له بتمام الأهلية للتصدر والانتصاب للإقراء، لاسيما بعد دخول كبار مشيخته في السن، وإحساسهم بالحاجة إلى من يخلفهم في الميدان، وذلك ما سنقوم بمرافقته فيه في الفصل التالي بعون الله، لنرى كيف تأتى له بعد التخرج أن يتصدى لهذا الشأن، وينتقل فيه بسرعة من طالب متلقن، إلى أستاذ ملقن، قبل أن تطير له في الآفاق تلك الشهرة التي جعلته قبلة القصاد، ومنهل الصادرين والوراد، من مختلف الأقطار والبلاد.
الفصل الثالث:
تصدره للإقراء، ومعالم اختياره
في القراءة، ومكانته بين أئمة الأمصار
أو نسخ قرءان(١) وعرض حزب | أو عدة معدة لحرب(٢). |
ويذكر الحسن الوزان في هذا الصدد أن بمدينة فاس لهذا العهد إحدى عشرة مدرسة للطلاب جيدة البناء كثيرة الزخرف، وأشهرها "المدرسة البوعنانية " التي كلف بناؤها أربعمائة وثمانين ألف مثقال ذهبا... قال: وتشبه سائر مدارس فاس هذه المدرسة، في كل مدرسة أساتذة لمختلف العلوم (٥).
ولقد كان للقراء والقراءات الحظ الأوفى من هذه العناية، فكانت المدينة بسببها مقصدا لكثير من الراغبين في الإفادة منها تعلما وتعليما، ولقد انعكست هذه العناية من لدن الدولة في أكثر من مظهر ومجال.
فكان من ذلك تقريب علماء القراءات وانتدابهم رسميا للتأديب و الاقراء في المدارس والجوامع العامة والخاصة، واستعمالهم في الوظائف الرفيعة كالكتابة العليا والقضاء والإمامة أو دمجهم ضمن الحاشية وجلساء السلطان.
(٢) - رقم الحلل ارجوزة في ١١٢٣ بيتا مخطوطة بالخزانة العامة بالرباط برقم ١٢٩٩.
(٣) - ينظر في ذلك ازهار الرياض ٣/٢٧- ١/٥..
(٤) - ينظر في ذلك فهرسه خزانة القرويين ٣/٣١ لمحمد العابد.
(٥) - وصف إفريقية ١/١٧٨-١٧٩-٢٠٣ ترجمة محمد حجي وأحمد الأخضر ١٩٨٠.