بعد أن تعرفنا على نافع في طور النشأة والطلب من حياته، ورافقناه وهو ينهل من مجالس العلماء وحلقات المشايخ الجلة، على اختلاف مشاربهم، وتنوع اهتماماتهم العلمية، نريد الآن أن نسايره في هذا الطور الجديد الذي كان يهيئ له نفسه، أو تهيئه له الحياة العلمية في بلده، فلقد لاحظنا من خلال ما قدمنا وجوده الطويل في صحبة أساتذته الكبار، وأكثرهم كان من أصحاب الحلقات الرسمية في المسجد النبوي، هذا المسجد الذي ظل على ما أسلفنا مدرسة دائمة، أو جامعة إسلامية مفتوحة، تتلقى فيها علوم الشريعة بمختلف شعبها وفروعها، الأمر الذي كان يرشح نافعا الطالب الطموح للإحساس منذ باكورة الصبا، بروح المنافسة والطلب واختيار المشيخة، ويبث فيه مع الأيام المزيد من الرغبة في التفقه في علوم الرواية، ومنافسة العلماء في الدرس والبحث والتنقيب عن الآثار، إلى أن ترامت به الحال إلى طلب ما يطلبه أمثاله من المتخرجين من أهل هذا الشان، من أخذ حظوظهم من الثواب والأجر في الإفادة والتعليم، وشق طريق السعي نحو اقتعاد كرسي الإمامة في العلوم الخاصة بالقراءة والأداء، كما اقتعده أعلام المشايخ ممن تخرج عليهم من علية علماء دار الهجرة والوافدين عليها من المتصدرين.
ولا ريب أن الترشيح لمثل هذه المناصب إنما كان يجيء في الغالب بصورة تلقائية، بمبادرة شخصية من الطالب، بعد أن يكون قد أحس من نفسه باستيفاء آلته، واستجماع حصيلته العلمية في فنه، وتزكيه في هذا التطلع صور أخرى من الاعتراف من لدن المشايخ المعتبرين ببلوغه مبلغ التأهل، وجدارته بالتصدر، أو من لدن رفقائه في الدرس والتحصيل، الذين يشهدون لصاحبهم بمثل هذا الشفوف والتقدم، الأمر الذي يجعل المتخرج يطمح إلى تجاوز مستوى الأخذ والتلقي، إلى مستوى العطاء والإفادة.
وكان من ذلك انتداب طائفة منهم للإشراف على قراءة الحزب، إذ استمر الأخذ بهذه الوظيفة رسميا منذ أيام الموحدين، ولما ولي مؤسس الدولة يعقوب بن عبد الحق أمر بتوظيف جماعة من القراء للقيام بهذه المأمورية في المساجد الكبيرة، وقد ذكر إسماعيل بن الأحمر في ترجمة الفقيه الكاتب محمد بن عبد الله بن أبي مدين شعيب العثماني أنه نشأ بمكناسة الزيتون وبها قرأ القرءان وتفقه، ثم ارتحل إلى فاس... وانتقل بعد وفاة الوزير عمر بن السعود لقراءة الحزب بدار أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق(١).
وكان من مظاهر هذه العناية اتخاذ ملوك هذه الدولة مشايخ من أعلام القراء ليأخذوا عنهم هذه العلوم. وسيأتي لنا في تراجم طائفة من القراء كأبي الحسن بن بري وأبي العباس الزواوي وأبي عبد الله الصفار كيف كانوا يعارضون ملوك الدولة بالقراءات.

(١) - نثير الجمان ٢٥٥-٢٥٦.


الصفحة التالية
Icon