ولقد مر بنا ما جاء في بعض النقول عن احتمال عمل نافع أول الأمر في كتاب بالعقيق، فإذا صح هذا كان أول تجربة له في الميدان يحتك فيها بالتعليم وأساليبه، ويتمرن على التمرس بالإقراء، وهو فن يحتاج إلى دربة وصبر، ولعله في أثناء ذلك كان يتابع حضور حلقات المشايخ كما قدمنا، ويسعى نحو استكمال رصيده من الروايات والآثار في حروف القراءة، مما سيكون في أمس الحاجة إليه عند حاجته إلى الاختيار في إطار ما تجمع لديه من هذه الذخيرة الرفيعة. لما تعارف عليه علماء الفقه والقراءة التفسير من ضرورة تعرف الساعي نحو الحذق فيها على ما بين أهلها من اختلاف، ولذا قالوا: "لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يده"(١)وقالوا في ضرورة الجمع بين التضلع في القرآن وعلومه: "لا يكون إماما في الفقه من لم يكن إماما في القرآن، والآثار، ولا يكون إماما في الآثار من لم يكن إماما في الفقه."(٢)، وقالوا في مثل ذلك:
"من لم يعرف اختلاف القراء فليس بقارئ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه"(٣).
هي ثقافة علمية أساسية إذن كان لا بد منها لمن يشرئب بنظره نحو ما كان يشرئب إليه نافع من الوصول إلى إمامة هذا الشأن، أو كانت تسعى به العناية الإلهية نحوه، ليكون خير خلف لأساتذته الكبار أمثال أبي جعفر وشيبة وابن هرمز.
ولقد كان أبو جعفر فيما يبدو يرشحه لهذا المنصب، ويتوسم فيه خلفه البار في حلقته، ولعله أول من أحس بمظاهر التحول في حياة تلميذه لأول ما جلس للاقراء، فكان إذا مر بأبي جعفر في مجلس إقرائه، يقول أبو جعفر لأصحابه: "أترى هذا كان يأتيني وهو غلام له ذؤابة فيقرأ علي، ثم كفرني، وهو يضحك.."(٤).

(١) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ٢/٤٦.
(٢) - المصدر نفسه ٢/٤٧.
(٣) - نفسه ٢/٤٦.
(٤) - وفيات الأعيان ٦/٢٧٥ ترجمة ٨١٤.

وهكذا استقطبت عاصمة الدولة أكابر العلماء والقراء، وأسندت إليهم المناصب وأجريت عليهم الرواتب فاطمأن بهم المقام، وتنامى بسببهم جانب البحث والنظم والتأليف، وعمرت المساجد المختلفة بالمدرسين لمختلف الفنون، وكانت مجالس الخلفاء أيضا حافلة بما كان يتطارحه العلماء فيها من مباحث وعلوم، وانضوى إلى الحاشية الرسمية يوما عن يوم كبار العلماء والقراء والأدباء، فكان فيها أمثال مالك بن المرحل السبتي (٦٩٩) الذي كان من أعيان شعراء الأمير يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني(١). وكان فيهم مثل أبي عبد الله بن رشيد السبتي (٧٢١) الذي "استدعاه المقام السلطاني إلى حضرة فاس فوردها، وصار من خواص السلطان بها (٢). ومثل أبي محمد عبد المهيمن بن محمد الحضري السبتي الفقيه الأديب والمقرئ الحافظ كاتب سر الخليفة أبي الحسن المريني(٣) إلى غيرهم من العلماء الذين رتبوا لشهود هذه المجالس التي يذكر ابن خلدون عن أبي الحسن في عنايته بها: أنه كان لعظم همته وبعد شأوه في الفضل يتشوف إلى تزيين مجلسه بالعلماء، واختار منهم جماعة لصحبته ومجالسته(٤).
وقال في سياق حديثه عن مشيخته من جلساء السلطان: "وكان قدم علينا في جملة السلطان أبي الحسن عندما ملك إفريقية سنة ثمان وأربعين جماعة من أهل العلم، وكان يلزمهم شهود مجلسه ويتجمل بمكانهم فيه(٥).
وقال في حديثه عن أبي الحسن أيضا: "وكان يستكثر من أهل العلم في دولته ويجري عليهم الأرزاق، ويعمر بهم مجلسه"(٦).
(١) - الاستقصاء ٣/٨٨.
(٢) - درة الحجال ٢/٩٦-١٠٠ ترجمة ٥٣٢.
(٣) - مسالك الأبصار ١٤٨-١٤٩.
(٤) - تاريخ ابن خلدون ٧/٣٨٩- ومثله في "التعريف بابن خلدون" ٣٢-٣٣.
(٥) - التعريف بابن خلدون ٢٠ (طبعة دار الكتاب اللبناني ١٩٧٩).
(٦) - التعريف بابن خلدون ٤٦.


الصفحة التالية
Icon