وهي إشارة فيها مداعبة منه لتلميذه القديم، وفيها إلى جانب ذلك إحساس غامر بالغبطة من لدن الشيخ، وهو يرى بعض ثمار عمله في هذا الشاب الذي أخذ طريقه للمنافسة في بث العلم، إن لم يكن فيها أيضا شعور خفي بالمزاحمة على المنصب والجاه، مما قد يشعر به قوله "ثم كفرني"، وإن كان قد ساقها مساق التمليح والمداعبة والإيناس.
وفي الخبر نفسه ما يدل على تصدره المبكر في حياة مشايخه في المسجد نفسه الذي تخرج في رحابه، وربما كان ذلك ولما يتجاوز العشرين إلا بقليل، وذلك مؤدى ما نقله الإمام الذهبي عن الهذلي في كامله ـ كما تقدم ـ في قوله: "كان نافع معمرا، أخذ القرآن على الناس في سنة خمس وتسعين"، وإن كان الذهبي لم يرتض هذا التحديد وقال: "كذا قال الهذلي، وبالجهد أن يكون نافع في ذلك الحين يتلقن ويتردد إلى من يحفظه، وانما تصدر للإقراء بعد ذلك بزمان طويل، ولعله أقرأ في حدود سنة عشرين ومائة، مع وجود أكبر مشايخه"(١).
ولا أرى موجبا لاستبعاد ما ذكره الهذلي لأنه هو الموافق للآثار الواردة في ذلك، ومنها:
ما ذكره الإمام الداني في الطبقات قال: "بلغنا أن أبا الطفيل عامر بن واثلة(٢)وعبد الله بن أنيس(٣)صاحبي رسول الله ـ ﷺ ـ صليا خلف نافع"(٤).

(١) - سير أعلام النبلاء للذهبي ٧/٣٣٧.
(٢) - هو عامر بن واثلة الكناني الليثي آخر من مات من الصحابة، توفي سنة ١٠٠ هـ وقيل سنة ١١٠. الخلاصة للخزرجي ١٨٥.
(٣) - في كتب الصحابة علمان بهذا الاسم واسم الأب، أحدهما عبد الله بن أنيس الجهني صحابي مشهور، ولعله ليس المقصود هنا لوفاته قبل سنة ٨٠ كما في الخلاصة للخزرجي ١٩١ ـ. وهناك عبد الله بن أنيس الأنصاري صحابي آخر روى عنه ابنه عيسى، غير مذكور الوفاة – الخلاصة ١٩١. ولعله الذي صلى خلف نافع، أما الأول فلم يدركه أو لم يدرك إمامته بالناس.
(٤) - نقله الجعبري في ترجمة نافع في كنز المعاني (مخطوط).

ولا أدل على المكانة التي نالها العلماء والقراء لهذا العهد وما بعده من الرجوع إلى أخبار حركة أبي الحسن إلى تونس في جمادى الأخيرة من سنة ٧٤٨هـ، فقد دخلها فاتحا فتحا معنويا قبل أن يحتلها عسكريا وكان إجلا به عليها بمن معه من أكابر العلماء في وزن إجلابه عليها بما معه من الجند والعتاد، "وتلقاه وفد تونس وشيوخها من أهل الفتيا وأرباب الشورى... وكانت تونس يومئذ مشحونة بالأعلام والأكابر منهم ابن عبد السلام وابن عرفة وابن عبد الرفيع وابن راشد القفصي وابن هارون وأعلام وآخرون(١).
وكان مع أبي الحسن صفوة أعلام المغرب وعلمائه، فكان من قدر الله أن نكب هذا الجيش بمن معه من العلماء في رحلة العودة إلى سواحل بجاية، "وهلك في هذا الأسطول ممن كان معه من أعلام نحو أربع مائة عالم"(٢). قال العلامة ابن زيدان في الإتحاف: وهي من أعظم الدواهي التي أصيب بها المغرب الأقصى، وكانت بعد عيد الفطر سنة ٧٥٠"(٣).
(١) - الاستقصا ٣/١٥٦.
(٢) - الاستقصا ٣/١٧١- والروض الهتون ٤٣.
(٣) - إتحاف أعلام الناس ٣/٥٨٧.


الصفحة التالية
Icon