فهذه الأخبار في مجملها توافق ما ذكره الهذلي أو تقاربه، فلا يكون ما استبعده الذهبي واردا، لأنه يصادم النقول المذكورة مع إلقائه له غفلا مجردا من الأدلة. على أن كثيرا ممن ترجموا له من القراء قد حرصوا على الإشارة إلى قراءته المبكرة واجتماع أهل بلده على قراءته في حياة مشايخه، فقال أبو عبيد: "وكان أقدم هؤلاء الثلاثة أبو جعفر، قد كان يقرئ الناس بالمدينة قبل وقعة الحرة، حدثنا بذلك إسماعيل بن جعفر عنه، ثم كان بعده شيبة على مثل منهاجه ومذهبه، ثم ثلثهما نافع بن أبي نعيم، وإليه صارت قراءة أهل المدينة، وبها تمسكوا إلى اليوم"(١).
وقال الأندرابي: "وكان رحمه الله قارئ أهل المدينة ومقرئهم في مسجد رسول الله ـ ﷺ ـ في حياة أبي جعفر وشيبة وغيرهما من التابعين، وإمامهم الذي تمسكوا بقراءته، واقتدوا به فيها من وقته إلى وقتنا"(٢).
وقال ابن عبد الوهاب(٣)في كفاية الطالب: "سمعت الأهوازي يقول: ان نافعا كان قديم الرياسة في القراءة، عالما بوجوهها، متبعا لآثار سلفه الماضين ببلده"(٤).
وقال الطبري(٥)في الجامع: "وكان عارفا بالقراءات نحريرا، مقدما في زمانه، بصيرا، متبعا للأثر ولمن مضى من السلف، إماما لمن بقي من الخلف"(٦).

(١) - تقدم نقله من كتاب القراءات لأبي عبيد في العدد الأول.
(٢) - قراءات القراء المعروفين ٥١.
(٣) - هو صاحب المفتاح في القراءات، سيأتي في أقطاب القراءات بقرطبة.
(٤) - نقله المنتوري في شرحه على الدرر اللوامع عند ذكر التعريف بنافع.
(٥) - هو أبو معشر عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري صاحب كتاب الجامع في القراءات سيأتي.
(٦) - نقله المنتوري في شرح الدرر اللوامع.

ولقد عبر العلامة ابن خلدون عن مقدار اهتمام المغاربة بقراءة القرآن وتحصيل رواياته لهذا العهد فقال في سياق تقويمه للحركة العلمية: "لم نشاهد في المائة الثامنة من سلك طريق النظار بفاس في جميع هذه الأقطار، لأجل انقطاع ملكة التعليم عنهم، ولم يكن منهم من له عناية بالرحلة بل قصرت هممهم على طريق تحصيل القرآن ودرس "التهذيب" فقط(١).
وهذا التقويم من ابن خلدون يدلنا على مقدار العناية والاهتمام بالجانبين القرائي والفقهي، وعلى الأخص في مدينة فاس حيث أعيد لمدونة الفقه المالكي اعتبارها بعد أن أحرقت ومنعت من التداول على عهد الموحدين(٢)، واعتنى إلى جانب ذلك بفنون القراءات طرقا وأداء ورسما وضبطا ورواية وتأليفا ونظما، حتى استطاعت أن تتفوق على المراكز العلمية التي كانت تنافسها من قديم في مراكش وسبتة وغرناطة وما إليها.
ولقد نبه بعض الباحثين على ما أمسى لبعض هذه المراكز لهذا العهد من اختصاص ببعض الفنون، فذكر أنه "أصبح لبعض هذه الحواضر المغربية زعامة في بعض العلوم لا يمكن لمن يرغب في الاستزادة منها والتخصص فيها إلا أن يؤم مشيختها للاستفادة منها، كالحديث والنحو بسبتة، والفقه بفاس، وعلوم القرآن من قراءات ورسم وتجويد بفاس وتازة"(٣).
(١) - نقله المقري في أزهار الرياض ٣/٢٦-٢٧، وكتاب التهذيب المشهور في اختصار المدونة في الفقه المالكي لأبي سعيد خلف بن أبي القاسم الأزدي التونسي المعروف بالبراذعي من كبار أصحاب أبي محمد بن أبي زيد القيرواني –ترجمته في شجرة النور الزكية ١/١٠٥ طبعة ٩ ترجمة ٢٧٠.
(٢) - ينظر في ذلك درة الحجال ٣/٤٧ ترجمة ٩٥٤.
(٣) - الأستاذ عبد الله المرابط الترغي –دعوة الحق ١١٦ العدد ٢٥٩ محرم صفر ١٤٠٧- شتنبر أكتوبر ١٩٨٦.


الصفحة التالية
Icon