ومؤدى هذه الأخبار والشهادات أن جلوس نافع لطلبته، واستئثاره بالإمامة في القراءة في بلده كان مبكرا، وذلك بعد أن استوفى العقد الثالث من حياته أو كاد، أي أنه كان على موعد مع قرابة سبعين عاما أو نيف من المجد العلمي، برئاسة إمامة الإقراء بالمدينة وإمامة الصلاة بالمسجد النبوي، إلا انه كان على موعد أيضا مع العمل اليومي الدؤوب في استقبال غاشيته من أفواج القراء والعارضين من أهل الحجاز والشام والعراق والجهات القاصية كمصر وافريقية والأندلس وبلاد العجم وغيرها من الآفاق.
ومعنى ذلك أنه سيستقبل خلال هذه المدة أجيالا عديدة، منها ما ينتمي إلى جيله ممن استكملوا قراءتهم بالعرض عليه، ومنها ما ينتمي إلى الجيل الثاني أو الثالث اللذين عاصراه في طور المشيخة والتصدر، الأمر الذي يقتضي منه أن يتفرغ تفرغا كليا لهذه الشؤون، وأن يسلك فيها قراءة وإقراء وتلقينا سبيل المشيخة المعتمدة في البلد، وهي سبيل تضبطها جملة من الأعراف والآداب لا سبيل إلى تجاوزها كما سنرى في حلقته، وسيقتضي ذلك منه أيضا مزيدا من الاحتياط والنباهة والتثبت من جملة ما يقرأ به أو يقرئ من حروف القراءة وأصول الأداء، لاسيما وفي العارضين عليه ـ كما سوف نرى ـ عدد كبير من أهل الأمصار المختلفة التي تقرأ على أنماط غير الأنماط المعهودة عند قراء المدينة.
وسنكون مضطرين لأن نقف معه على كل من النقطتين، أولا لنتعرف على أسلوبه في الإقراء وما كان يأخذ به في الأخذ على القراء، وثانيا لنتعرف على معالم اختياره في القراءة وخصائص قراءته في الجملة، قبل أن نتطرق لمجالي نبوغه في القراءة وإمامته في علومها وما كان له من الريادة والسبق في كثير من تلك المباحث.
أولا: نافع في حلقة التدريس والإقراء
ولقد ظهر الإهتمام بالقراءة وعلومها في فاس وانتظم جميع الفروع، ومن جملتها فن التجويد الذي يظهر أنه لم يكن لدى قراء المغرب إلى هذا العهد اهتمام به، ويبدو أن بعض الفقهاء ممن لم يعتادوا عقد الحلقات لهذا الفن في المساجد قد ضاقوا بها كما نقرأ عن حادثة وقعت في مسجد القيرويين بفاس ذكرها ابن القاضي في الجذوة فقال:
وروي أنه جرى في سنة ٧٤٩هـ أن بعض المجودين لقراء القرآن فيه كان يقعد بين يديه الأحداث من الصبيان لتحويد القراءة فيجتمع إليه الناس، إلى أن حدثت فتن بسبب ذلك، فرفع ذلك للشيخ الفقيه الصالح المدرس الولي عبد العزيز بن محمد القروي(١) فأشار على بعض من له حكم نافذ أن يشتد في تغيير ذلك ويمنعه كل المنع، فمنعهم وفرق جمعهم، ونظم في ذلك الشيخ الأستاذ علي بن سبع(٢) –رحمه الله- قصيدة قرئت على الشيخ عبد العزيز المذكور، فكانت سببا في اشتداده على قيام هذا القارئ قال: وهي هذه، ثم ذكرها(٣).

(١) - ترجمته في جذوة الاقتباس ٢/٤٥١.
(٢) - مقرئ حافظ من قراء مكناس سيأتي التعريف به.
(٣) - أولها قوله:
ألا حققوا عني مقالا هو الجد... فمنهج أهل الحق يسعده القصد....
وفيها يقول: فبعضهم في جمعة وخميسها... ينظم حفلا ليس يحصرها عد...
ألم تر فاس الغرب أعظم بقدرها وجامعها العظمى التي هي تعتد
بفعل عبادات تسوغ وموطن لجمع رجال الله يأتونها وفد
بدت بدع فيها ولا منكر لها وأبوابها إن فتحت فلها السدّ
تبرز للإقراء فيها جماعة ولا خبرة تبدو لديهم ولا نقد
وما لهم فم يميز ما حوت طريقة أهل الضبط حل ولا عقد
سوى نغم يبدونها بتلحن وتطريب ألحان لمن راح أو يغدو
أينصب بالقرآة للأكل أو لما يؤدي إلى التحريم فاعله وغد ؟
وعن مثل هذا حذر الحبر مالك وقال لمن يبديه في المسجد الطرد
إلى آخر القصيدة المشتملة على ٤٩ بيتا ذكرها بتمامها في جذوة الاقتباس: ١/٧٥-٧٦-٧٧.


الصفحة التالية
Icon