لا شك أن نافعا لم يكن بناء على ما قدمنا ـ غداة تصدره للإقراء، قارئا عاديا من الفئة التي كانت تعمل في الكتاتيب من التي سبق ذكرها في صدر الفصل الأول من هذا العدد، وإنما كان قد استكمل صفات المقرئ الإمام، التام الآلة، الناضج الشخصية، الذي تمثل مذاهب القراء، وعرف لغات العرب العرباء، وتمرس بمختلف العلوم والفنون الفقهية والأدبية واللسانية التي تساعد على استيفاء مقومات الإمامة وشروط التصدر، ولا شك أنه من خلال هذا المستوى الرفيع قد أخذ يتعامل مع الواردين عليه، إنه إذن لم يجلس في حلقة تدريسه لعامة الناس، وإنما جلس لطبقة خاصة حاصلة على المكانة المرموقة التي تؤهلها للأخذ عن القارئ الإمام، من أولئك الذين مهروا في القراءة، وبلغوا مستوى العرض على المشايخ، لاختبار درجة إتقانهم في التحصيل، أو لتزكية قراءاتهم بعرضها على هذا القارئ الإمام.
وذلك ما سوف يمر بنا مصداقه عند استعراض أسماء من بلغت إلينا أسماؤهم من الرواة عنه. أما من كان لم يصل بعد من شداة القراء المبتدئين إلى مثل هذا المستوى من الحذق في القراءة والأداء، فلم يكن مأذونا لهم بعد أن يحضروا حلقة إقرائه، ولذلك كان لا يرى في حضورهم ما يحقق المطلوب، فكان يحيلهم على بعض أصحابه ليأخذ عليهم، ليتفرغ للمتأهلين، وذلك ما واجه به أحد صغار تلامذته من المصريين لأول وروده عليه، فقد حكى أشهب بن عبد العزيز ـ وسيأتي في الرواة عنه ـ أنه جاء إلى نافع ليقرأ عليه، فرآه صغيرا، ولمس فيه شيئا من التقصير، فقال:
"إن كنت تريد تعليم الصبيان، فأت سليمان بن مسلم، يعني ابن جماز صاحب أبي جعفر"(١).
قال أبو عمرو الداني تعليقا على هذا الخبر: "وكنت مقرأة سليمان بن مسلم الهمز وإتمام المدات مثل مقرأة أهل الأندلس"(٢).
(٢) - نفس المصدر والصفحة.
ومهما تكن البواعث على منع هذا القارئ من عقد مثل هذه الحلقة في المسجد الجامع، والدواعي التي دعت إلى التشنيع عليه، فإن وجودها يصور لنا اهتماما زائدا لدى القراء والمقرئين بالعناية بالتجويد وعقد الحلقات الخاصة للتمرن، عليه طلبا لحسن الأداء وتمام الإتقان.
ولقد نبغ في قراءة نافع لهذا العهد مشايخ أجلاء صرفوا عنايتهم إليه بوجه خاص، وعكفوا على تحقيق رواياتها وطرقها وتجريد رسمها وضبطها، وتحرير مسائل الخلاف فيها، وبيان الراجح والمرجوح في أوجه أدائها وما إلى ذلك مما نجده إلى اليوم ماثلا في آثار أئمة العصر وفهارس العلماء ممن أسهموا في نهضته العلمية بنصيب.
و لاشك أن هذا الإزدهار الذي عرفته هذه القراءة على وجه الخصوص جاء نتيجة لعوامل عدة، منها تلك الحركة العلمية الناهضة التي أسسها الموحدون ووضعوا قواعدها، ومنها ذلك التلاقح الذي تحقق في فاس وغيرها من حواضر المغرب بين مختلف مدارس الأقطاب وامتداداتها في المغرب وإفريقية والأندلس، ومنها حركة الهجرة العلمية المتواصلة في اتجاه الحواضر العامرة، ومنها أخيرا تحول الثقل العلمي في الجهات المغربية إلى قاعدة الملك، واهتمام الدولة الجديدة بإقامة قواعده على الأصول الراسخة الجامعة، فكان من ذلك الأخذ بمذهب أهل المدينة في قراءتهم وفقههم على السواء.