وذلك عندي يعني أن نافعا أراد إحالته على هذا القارئ الذي يشتغل بتعليم الناشئة الصغار، ويصطنع لذلك أسلوب التحقيق ببيان الهمز، وإشباع المد، وتمكين الحركات، ونحو ذلك مما ينبه عليه القارئ على سبيل التلقين والتعليم، مع جواز القراءة بغيره لتدريب المتعلمين، ولعل نافعا كان متفرغا لأصحاب العرض خاصة من الذين مهروا في القراءة حفظا وأداء، وأما غيرهم فلا يتاح لهم في حلقته أن يأخذوا بحظهم منه، إلا في الآن بعد الآن، ولذلك كان يحيلهم على غيره، لأن أخذ الدور في قراءة العرض كان يتطلب طول صبر وانتظار لكثرة من كان يزدحم على حلقته من أبنائه المهاجرين والأنصار، فضلا عن غيرهم من الغرباء الوافدين من الأقطار، كما سيمر بنا في عرض ورش عليه.
أما مكان تصدره فهو المسجد النبوي الشريف، وكان ما يزال يومئذ على حاله زاخرا بالحلق العلمية، ولذا كان يحرص على أن لا يخل بالمحافظة على ما يقتضيه المقام من جلال، وما يستدعيه وجود حلق أخرى على مقربة منه من عدم تشويش عليها ورفع أصوات، وذلك ما يوحي به هذا الخبر الذي حكاه القاضي عياض عن أحد تلامذة نافع، وهو عبد الله بن نافع الزبيري قال: كنت أقرأ على نافع بن أبي نعيم بعد الصبح، فرفعت صوتي، فزجرني وقال: أو ما ترى مالكا؟، وهو أول ما عرفت به مالكا"(١).
وكان عبد الله بن نافع يومئذ يأخذ القراءة، ولم يجلس بعد إلى الفقهاء، ولذا لم يعرف مالك بن أنس، وسيكون آخر الأمر من جلة أصحابه(٢).
(٢) - ترجمة عبد الله بن نافع في أصحاب مالك عند ابن عبد البر في الانتقاء ٥٧ وعياض في ترتيب المدارك ٣/١٤٥.
وعلى الرغم من ضياع الكثير من تفاصيل الحياة العلمية للعصر بسبب قلة الحفل بالتاريخ ولا سيما العلمي والاجتماعي منه، فإننا يمكننا الظفر بنصيب من الشواهد الشاهدة بازدهار هذه القراءة في الحواضر الشمالية من المغرب لهذا العهد، وعلى الأخص عند مشيخة القراء بفاس الذين خلفوا في القراءة تراثا علميا يدل على نبوغهم وامتلاكهم لناصية الإجادة في الفن ورسوخ قدمهم فيه، وإن كانت المصادر التي وصلتنا لا تفي بإعطائنا من أخبار ذلك وتفاصيله ما يساعدنا على التقويم الكافي للجهود الكاملة التي بذلت في هذا الشأن، كما أنها لا تساعدنا كثيرا في تتبع الصلات والوشائج التي كانت تربط رجال مشيخة العصر المتصدرين ممن خلفوا بصماتهم في الميدان بالمنابع الصافية التي نهلوا منها، وذلك حتى نستطيع تصنيفهم بحسب انتماءاتهم الفنية، ونصلهم بأسانيد مشيختهم في الرواية والنقل، كما نصل تلامذتهم بهم وبروايتهم التي نجد التنصيص في بعض الفهارس على قراءتهم أو سماعهم لها منهم.
ومهما يكن فسنحاول –بعون الله- اعتمادا على ما تيسر لنا جمعه من أشتات متفرقة إعطاء القارئ الكريم صورة عن حركة القراءة والإقراء في موضوع قراءة نافع من خلال التعريف ببعض أئمتها البارزين وما خلفوه فيها من آثار مكتوبة، وما قام على تلك الآثار من نشاط علمي زاخر، سواء فيما عرف في مجال الروايات والطرق ب" العشر الصغير" أم فيما يخص الرواية التي كان عليها المدار وما يزال في هذه القراءة، وأعني بها رواية أبي سعيد ورش التي أدرنا هذا البحث المتواضع عليها، أم فيما يرجع إلى رسمها وضبطها وقواعد تجويدها وأصول أدائها.
وسنتناول بالبحث أهم المدارس التي كانت طليعة المدارس المغربية في أصول أداء هذه القراءة نعرف فيها بعلمين من أعلام تلك المدارس ومذاهبهما الفنية واثارهما وما قام حولها من نشاط علمي.
الفصل الأول:
مدرسة أبي عبد الله بن القصاب صاحب "تقريب المنافع في قراءة نافع".