وذلك أيضا مشعر بما عهد في نافع من سجاحة خلق اقتضت منه أن يراعي آداب الجوار مع مجاوريه من أصحاب المجالس الأخرى، وكانت سجاحة خلقه هذه بعض ما حببه للناس، وألفه منه الخاص والعام، ولذلك قيل عنه إنه "كان يباسط أصحابه"(١)، وربما قام لمن يستحق التكريم منهم ـ كما ذكر من حاله مع ابن جماز أنه "كان يقوم له، ويرفع قدره، ويجل منزلته، لأنه كان رفيقه في القراءة على أبي جعفر، ثم قرأ عليه"(٢).
أما وقت جلوسه للإقراء والأخذ على القراء، فيدلنا الخبر الآنف الذكر عن عبد الله بن نافع أنه يبتدئ بعد صلاة الصبح، وذلك هو الوقت المعتاد الذي درج السلف على استعماله في التعليم والإقراء، لما جاء في حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: "إنما كانوا إذا صلوا الغداة قعدوا حلقا حلقا، يقرأون القرآن، ويتعلمون الفرائض والسنن"(٣).
وسيأتي في أخبار رحلة ورش إليه أنه احتال له للحصول الدائم على فرصة العرض عليه، عن طريق إرشاده إلى المبيت في المسجد، حتى إذا افتتح نافع العرض عليه بعد صلاة الصبح، وأراد إعطاء الدور لمن جاء إلى مجلسه أولا على العادة المتبعة في ذلك، كان أولى من يأخذ الدور من بات بالمسجد، فكان اختيار نافع لهذا الوقت جاريا مع ما كان العمل عليه عند المشيخة، وذلك بعد أن تكون النفس قد أخذت حظها من الراحة والاستجمام، ومن شأنها حينذاك أن تكون مقبلة غير كليلة، ولا يخفى أن الدرس عند إقبال النفس وإشرافها، أعمق أثرا، وأرسخ منه عند تراجعها وفتورها في آخر النهار.
ذلك مكان مجلسه وزمانه، أما أسلوب الأخذ على أولئك الرواد المزدحمين عليه، فقد كان أيضا خاضعا للتقليد والعرف الجاري في مثل ذلك، وربما كان الأخذ فيه بحصة معينة على كل قارئ مما أملاه واقع هذا الاكتظاظ.

(١) - سير أعلام النبلاء للذهبي ٧/٣٣٨ ترجمة ١٢١.
(٢) - منجد المقرئين لابن الجزري ٨-٩.
(٣) - مجمع الزوائد للهيثمي ١/١٣٢.

يعتبر الإمام أبو عبد الله بن القصاب الأنصاري رائد المدارس المغربية في أصول الأداء الخاصة بقراءة نافع، وصاحب أول "مدرسة فنية" اهتمت بهذه القراءة ودراسة أحكامها الخاصة ووضعت معالم البحث والتأليف فيها.
إلا أن المصادر التاريخية وكتب التراجم لا تكاد تسعفنا بشيء من البيان الشافي عن شخصيته العلمية وما كان لها من شفوف في العلم، ولا عن مشيخته والجهات التي تخرج فيها، فضلا عن أن تسعفنا بما يثلج الصدر عن جهوده العلمية في ميدان الإقراء والبحث والتأليف، وما عرف له في هذا العلم من مذاهب واختيارات وتوجيهات.
ومن الطريف والعجيب أننا لا نجد له ذكرا في المصادر التي أرخت لعلماء مدينة فاس مع أنه –كما يبدو- من النابغين بها من أهل المنطقة، وليس من الواردين عليها من بعض الجهات الأندلسية. فقد تجاوزه عامة من كتبوا في الوفيات كابن قنفذ والونشريسي وابن القاضي، والمصدر الوحيد لترجمته المقتضبة وإن كان في أصله مصدرا مغربيا، فقد جاء النقل عنه في المصادر المشرقية.
ترجمته:
فقد انفرد بالتعريف الموجز به فيما أعلم –الشيخ الإمام أبو حيان محمد بن يوسف الغرناطي (ت٧٤٥)، وعنه جاء النقل عند ابن مكتوم وابن الجزري، فقال فيه ابن مكتوم:
"محمد بن علي بن عبد الحق الأنصاري شهر بابن القصاب، من أهل فاس يقرئ القرآن بالقراءات السبع، ويقرئ العربية أيضا"، وتوفي في حدود سنة تسعين وستمائة، أفادنيه شيخنا العلامة أبو حيان الأندلسي وكتبته من خطه"(١).
(١) - قله أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن مكتوم القيسي في ذيله الذي ذيل به على "معرفة القراء الكبار" للذهبي وهو مطبوع معه في آخر المجلد ٢/ والترجمة المذكورة رقمها ٦ في الصفحة ٦١٢.


الصفحة التالية
Icon