لقد كان أسلوب العرض على الشيوخ هو المعتمد في الحصول على الاعتراف والإقرار للقراء بإحراز المستوى المطلوب في إجادة القراءة والتمكن من علوم الأداء التزاما وتطبيقا، إلا أن الحصة في ذلك كانت تتناسب مع الحال، فربما زاد عدد ما يسمح به للقارئ البارع عن ما يؤذن به للمبتدئ الشادي، وأكثر ما كان التلقيد الإقرائي، الاقتصار على خمس آيات لكل عارض، وربما زاد إلى عشر بحسب الحال، وتبعا لما جاء في الأثر من ذلك، فقد روى أبو العالية الرياحي عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: "تعلموا القرآن خمسا خمسا، فإن جبريل نزل به على النبي ـ ﷺ ـ خمسا خمسا".
"وروى عبد الرحمن بن مهدي بسنده عن أبي رجاء(١)قال: "كان أبو موسى ـ يعني الأشعري ـ يعلمنا القرآن خمسا خمسا".
"وعن إسماعيل بن أبي خالد(٢)قال: "كان أبو عبد الرحمن ـ يعني السلمي ـ يعلمنا القرآن خمس آيات خمس آيات، قال: "وكان يقرئنا عشرين بالغداة وعشرين بالعشي، ويعلمنا أين الخمس، وأين العشر"(٣).
وكان بعض المقرئين يأخذ بنظام العشر، ائتساء بما جاء عن عثمان وابن مسعود وأبي بن كعب ـ رضي الله عنهم ـ عن النبي ـ ﷺ ـ أنه "كان يقرئهم العشر، فلا يجاوزونها إلى غيرها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل"(٤).

(١) - هو عمران بن ملحان أبو رجاء العطاردي البصري تابعي من أصحاب أبي موسى الأشعري، عمر عمرا طويلا قيل بلغ مائة وثلاثين. ترجمته في غاية النهاية ١/٤٠٦ ترجمة ٢٤٦٠.
(٢) - هو أبو عبد الله البجلي توفي سنة ١٤٥ وكان من تابعي أهل الشام ترجم له ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار ١١١ ترجمة ٨٤٥.
(٣) - هذا النقل والنقلان قبله من "رسالة التنبيه على الجهل والخطأ والتمويه للداني (مخطوط).
(٤) - الحديث في طبقات ابن سعد ٥/١٧٢ ـ وجامع البيان للطبري ١/٣٥ وتفسير القرطبي ١/٣٤.

وذكره ابن الجزري بمثل ما تقدم في نسبه وقال: أبو عبد الله الأنصاري الفاسي يعرف بابن القصاب، مقرئ مصدر كامل، قال أبو حيان: كان يقرئ القرآن بقراءات السبعة، ويقرئ العربية أيضا، وتوفي في حدود سنة ٦٩٠ (١).
ولم يذكر له أبو حيان ولا من نقل عنه شيوخا أو تلامذة أو مؤلفات أو شيئا زائدا يمكن من التقويم الصحيح لشخصيته العلمية، إلا أن في تنويه أبي حيان بإقرائه القرآن بالقراءات السبع وإقرائه العربية أيضا ما يدل على شفوف قدر وعلو منزلة استحق معهما هذه الالتفاتة من أبي حيان، وهو من هو في إمامة هذا الشأن.
ومهما يكن فإننا نستفيد مما ذكر في الترجمتين تحديد زمانه ومكانه ومعرفة نوع اهتمامه، وذلك إن لم يشف الغليل فيما نطمح إليه، ففيه ما نتعلل به ريثما نتمكن نحن أو غيرنا من مزيد من الإنارة الكافية والكشف المطلوب عن تاريخ هذه الشخصية ونشاطها القرآني والعلمي.
مشيخته:
ولعلنا بعد ما ذكرناه من شح المصادر التاريخية وضحالة ما قدمه لنا الناقلان عن أبي حيان من معلومات لا نطمع في الوقوف على ومشيخته أو تلامذته، فضلا عن أن نستطيع الحديث عن انتمائه الفني إلى مدرسة من مدارس الأقطاب التي يمكن أن يكون قد اتصل منها بسبب من الأسباب.
ولقد وفق الله –عز وجل- إلى الوقوف على كتابه الذي ذكرناه في عنوان هذا الفصل، فاستعرضته وكلي أمل في أن أجد مفتاحا للدخول إلى دراسة هذه الشخصية وانتمائها الفني بمعرفة بعض شيوخه الذين قد ينقل عنهم أو يذكر شيئا عن مذاهبهم واختياراتهم، إلا أني لم أحل من ذلك بطائل، إذ لم أجد له فيه سندا بالقراءة ولا نقلا عن أحد من الشيوخ، والنقل الوحيد الذي وفقت عليه فيه لم يورده مسندا ولا نسبه إلى كتاب، وإنما قال فيه: قال الحافظ أبو عمرو- رحمه الله- يعني الداني، ثم ساق سؤالا عن المد هل يكون مقداره دون ألف أو فوق ألفين؟...
(١) - غاية النهاية ٢/٢٠٤ ترجمة ٣٢٦٥.


الصفحة التالية
Icon