أما نافع فقد رتب عملية العرض على سعي العارض بنفسه للحصول على الدور أول الناس، وذلك إما عن طريق التبكير إلى الحلقة، وإما عن طريق المبيت بالمسجد مع الغرباء، وقد اقتضى هذا الازدحام عليه من الراغبين في تحقيق القراءة وأخذها عنه سماعا وأداء، طول الصحبة له واللزوم لمجلسه، حتى كان فيهم على غرار ما سيأتي عن تلميذه وربيبه عيسى بن مينا المعروف بقالون من بلوغ مدة قراءته عليه خمسين سنة(١)حتى قيل له: كم قرأت على نافع؟ فقال: ما لا أحصيه كثرة، إلا أني جالسته بعد الفراغ عشرين سنة(٢)ولذلك قال له مرة حين رأى لزومه الطويل له، وآنس منه التبريز في حذق القراءة والأداء، ورأى أن في بقائه على هذه الحال ما يخل بالغرض، واقترح عليه التصدر للتعليم، وإتاحة الفرصة لغيره من الغرباء في حلقة الشيوخ، وقال له: كم تقرأ علي؟ اجلس إلى أسطوانة، حتى أرسل إليك من يقرأ عليك"(٣).
ومعنى هذا انه يرشحه للتصدر، ويريده أن يخفف عنه من وطأة الازدحام، بإرسال بعض من يقرأ عليه إليه، وكانت هذه بداية قالون، ليهيئ نفسه لاقتعاد كرسي المشيخة في هذا الشأن خلفا لشيخه في مستقبل الأيام.
(٢) - غاية النهاية ١/٦١٥ ترجمة ٢٥٠٠.
(٣) - معرفة القراء الكبار ١/١٢٠ ـ والنشر لابن الجزري ١/١١٣.
أما الكتاب الذي ظفرت به له مخطوطا فهو ""كتاب تقريب المنافع في قراءة نافع"، وهو من كتبه السائرة الشهيرة وقفت عليه في نسخة خطية لا أعلم لها ثانية بالخزانة الحسنية بالرباط (١) لا تحمل عنوان الكتاب كما أثبته، وإنما سجلت تحت إسم "رسالة في قراءة نافع"، وعرف بها في فهرسه الخزانة الحسنية بهذا العنوان(٢).
تقديم وتعريف بالكتاب:
ونظرا لما يكتسيه الكتاب من أهمية خاصة باعتباره الأثر الوحيد الباقي- فيما أعلم- من آثار المؤلف، واعتباره أيضا أقدم تأليف مغربي محض في قراءة نافع من روايتي ورش وقالون، أعطي للقارئ نظرة وجيزة عنه تعرف بأهم أبوابه ومباحثه، وتنبه على منهجه في عرض المسائل وبحثها، ويبتدئ في مخطوطته المذكورة بالديباجة التالية:
-قال الشيخ الأستاذ الإمام الفقيه المقرئ الحافظ العالم المعلم الراوية المتقن أبو عبد الله محمد ابن الشيخ الأجل الأفضل المقدس المرحوم أبي الحسن علي ابن الشيخ الأفضل الأجل أبي محمد عبد الحق الأنصاري المعروف بابن القصاب رحمه الله تعالى ورضي عنه:
"الحمد لله القديم الدائم الذي لا أولية له، الباقي الذي لا آخر له، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم"، وصلى الله على سيدنا محمد خير الأنام، المصطفى من جميع المخلوقات، الداعي إلى دار السلام، بالمواعظ والحكم والأدلة وأفصح الكلام، وهو الكتاب العزيز، والنظم الفائق الفريد، الذي "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد".
(٢) - وقد وقع خطأ في تاريخ وفاة مؤلفه في الفهرسة إذ جعلها جامعها سنة ٧٦٢، في حين أن ما تقدم نقله عن أبي حيان يذكر وفاته في حدود ٦٩٠.