فاتباع نافع لأسلوب العرض لتمام التحمل، بعد أن يكون القارئ قد سمع القراءة من الشيخ وغيره بمحضره وتمرن في حلقته على حسن أدائها، هو الأسلوب المأخوذ به عند أئمة القراء خلفا عن سلف، للحصول على الاعتراف من الشيوخ، ولتمام الأهلية للتأدية عنهم فيما سبيله الرواية والنقل، وهذا النمط من التحمل أوثق وجوهه كما قدمنا، وفيه أيضا إبقاء الفسحة للقارئ في وجوه الأداء، ليقرأ منها بما مرن عليه لسانه، دون إلزام من الشيخ له ببعض تلك الوجوه، طالما أنها تدخل في إطار الضوابط المصححة للقراءة المتلقاة بالقبول عند أئمة القراء.
على أن من طالت صحبتهم لنافع كتلميذه قالون قد حرصوا على أن يأخذوا عنه القراءة بالطريقتين السماع والعرض، كما ضبطوها عنه أيضا بالتدوين والكتابة، وتحققوا من اختياراته فيها، فكانوا بحق الممثلين لمدرسته بالمدينة، والقائمين بها من بعده على أوفى ما كان قائما بها في زمنه.
وفي هذا يقول قالون ـ فيما أخرج ابن الأنباري في الإيضاح بسنده عنه ـ "قرأت على نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ هذه القراءة غير مرة، وأخذتها عنه"(١).
وفي لفظ عند ابن الجزري "قرأت على نافع قراءته غير مرة، وكتبتها في كتابي"(٢). بل ان قالون قد أخذ عنه أيضا قراءة أبي جعفر كما قدمنا، ولا سبيل إلى ذلك إلا بسماعها من نافع، وهذا من أوثق الأدلة على أنه أخذ عنه القراءة سماعا من لفظه، ثم زاد فعرضها عليه.
(٢) - غاية النهاية ١/٦١٥.
ثم أخذ يجيب على تلك الأسئلة سؤالا سؤالا بقوله: "مسألة" فمعنى أن يقول القارئ "بسم الله الرحمن الرحيم"... وهكذا إلى أن أتى على آخر مسائله العشر في الباب فقال فيها:
"ومذهب نافع في هذا الباب، أن قالون في جميع طرقه يبسمل بين السورتين في جميع القرءان ما خلا الأنفال وبراءة (١)، وورش عن طريق أبي يعقوب الأزرق عن نافع لا يبسمل بين السورتين، وقد استحب بعض الشيوخ البسملة في هذه الرواية بين "المدثر" و"القيامة" و"الانفطار" والمطففين" و"الفجر والبلد" و "العصر" و"الهمزة"، وليس في ذلك أثر يروى عنهم، وإنما هذا استحباب من الشيوخ (٢)، وروى غيره عن ورش عن نافع كأبي الأزهر عبد الصمد البسملة، والأول أشهر فاعلم ذلك وبالله التوفيق. ثم قال:
"باب ميم الجمع"، هذا الباب ترد عليه عشرة أسولة: فالأول: ما هي ميم الجمع؟ والثاني: أن يقال وما أصل ميم الجمع؟ إلى أن قال: ما مذهب نافع في هذا الباب؟.
ثم أخذ يجيب عن سؤالا سؤالا كما تقدم، وهكذا فعل في باب "هاء الإضمار" ثم في "باب المد والقصر" ملتزما وضع الأسئلة العشرة والإجابة عنها، وقد افاض في مباحث باب المد بعض الإفاضة، ومما قال فيه عن مذهب نافع:
"مسألة": ومراتب المد في رواية نافع –رحمه الله- ثلاثة: أحدها ألف في تقدير فتحتين، أو واو في تقدير ضمتين، أو ياء في تقدير كسرتين، والمرتبة الثانية: ألف وحركة، أو واو وحركة، أو ياء وحركة، والمرتبة الثالثة: ألفان أو واوان أو ياءان، وهذا لا يضبط إلا بالمشافهة، ثم نقل ابن القصاب أول نقل له في الكتاب فقال:
(٢) - قوله وليس في ذلك أثر يروى إلى آخرة هي عبارة أبي عمرو الداني بنصها في "التيسير" ص ١٨.